يكاد لا يمر يوم من دون خبر عن سلوك ما مثير في مواقع ال «سوشال ميديا»، ويقصد بذلك كونه سلوكاً غير مألوف في الحياة اليوميّة الفعليّة للناس. ومع تذكّر أن ال «سوشال ميديا» هي الساحة الأرحب للتخاطب بين ما يربو على ثلاثة آلاف مليون كائن بشري، تفتح السلوكيات اليوميّة في تلك المواقع، آفاقاً رحبة للتأمل والتفكير، خصوصاً من جانب علماء الاجتماع. وربما أثار الأمر أيضاً اهتمام حفنة من المختصين في حقول معرفيّة أخرى، كالتواصل والاتصال واللغة وألسنيات الكومبيوتر، والذكاء الاصطناعي وغيرها. من الناحية النظريّة، ليس مجازفة القول إنّ السلوك المعلوماتي ربما مثل أحد أكثر نواحي البحوث ثراءً في مجال العلوم الإلكترونية المعاصرة. ومن المستطاع رصد بداية الاهتمام بذلك السلوك في الأعمال الأدبيّة التي تلت 1978. وكذلك جرى تسليط الضوء عليه في أعمال نقديّة للكاتبتين الأميركيّتين ديرفين ونيلان في العام 1986. وقدّمت أعمالهما نموذجاً عن الجهود الحثيثة التي بُذلت من أجل إطلاق نظريات جديدة تتناول السلوك المعلوماتي للبشر، إضافة إلى صنع نماذج تأطيريّة عنه. وترافقت تلك الجهود مع تغيير في طُرُق التفكير التي انتقلت من الاهتمام بالنُظُم الرقميّة المعلوماتيّة (على غرار الدراسة الشهيرة للمفكر الأميركي نعوم شومسكي «عالم واحد، نظام تشغيل واحد» عن نظام «ويندوز») إلى تركيز النظر على المستخدم- الإنسان. وفي ستينات القرن العشرين وسبعيناته، اقتصر اهتمام الدراسات على النظام الرقمي بحد ذاته. وآنذاك، حاول الباحثون فهم المستخدمين وحاجاتهم المتنوّعة، عبر دراسة النُظُم الإلكترونية ومصادرها ومساراتها. البشر أولاً و... أخيراً مع التغيير في طُرُق التفكير في نهاية القرن العشرين، أولى الباحثون اهتماماً متزايداً للمستخدم البشري وخصائصه. وجرى اعتماد مقاربات مختلفة في دراسة السلوك المعلوماتي لمجموعات بشريّة متنوّعة يربطها إقبالها على استعمال تقنيات المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة. وكذلك جرى ابتكار منهجيّات أكاديمية بالاستناد والاقتباس من حقول أخرى كالعلوم الاجتماعيّة. وعلى رغم ذلك، مازالت غالبية تلك الأعمال متناثرة على هيئة أوراق بحوث وفصولٍ من كُتُب. واستطراداً، برزت حاجة ملحة إلى ضمّ ذلك المتناثر من الأعمال في دراسات مجملة. ويُعتبر كتاب «نظريات عن السلوك المعلوماتي» Theories of Information Behavior. الذي ألّفَه كارين فيشر وساندرا إيرديليز ولين ماكشني، طليعيّاً في تقديم نظرة شاملة إلى معظم النظريات البارزة في شأن السلوك المعلوماتي والهيكليّات المبدئيّة المتصلة به. ووُضِعَ الكتاب أصلاً ليشكّل دليلاً للباحثين، وكي يفصل بعض النظريات والمناهج المبدئيّة الأساسيّة. إذ يعرض بعضها القديم، على غرار «نظرية المنطق» التي فكّرت فيها ديرفين، لكنه يُقدّم أيضاً نظريات أكثر جدّة على غرار مبدأ الآفاق المعلوماتيّة. ويضمّ الكتاب 75 فصلاً سطرها 85 عالماً ذائعو الصيت من 10 دول مختلفة. وتتميّز الفصول الثلاثة الأولى بطولها وبكونها تمهيديّة أيضاً إلى حد كبير. يلقي الفصل الأول نظرة شاملة على بعض المبادئ النظريّة الأساسيّة في بحوث علم المعلومات والأرشفة والمكتبات. ويستخدم أمثلة كثيرة لتحديد 3 محاور يراها مهمة، هي: «نظرية المنطق» و «النظريات المتعددة» و «النموذج المعلوماتي». ويستعرض الفصل الثاني المنهجيّة التي تسير عليها «نظرية المنطق». ويرسم الفصل الثالث، تطوّر نموذج السلوك المعلوماتي الذي أرسيت ملامحه في العقدين الأخيرين. وفي حين يساعد الفصل الأول على فهم المبادئ النظرية في ذلك المجال وصِلاتها المختلفة، يشكّل الفصلان الثاني والثالث مرجعاً مفيداً للقراء الراغبين في معرفة المزيد عن المنهجية وعملية إطلاق النظريات المتصلة بالسلوك المعلوماتي. مقاربات متنوّعة ومتّصلة تشكّل بقية الفصول ال72 غالبية الكتاب. فتستعرض الأعمال النظريّة في ذلك الحقل المعرفي، وهي مرتّبة وفقاً للحروف الأبجديّة. وتشمل عناوينها «الحمولة العاطفيّة» و «البحث عن المعلومات على الشبكة العنكبوتيّة» و «سلطة التواصل الشبكي» وغيرها. ويسلّط كل واحد من تلك الفصول القصيرة الضوء على مبدأ أو نظرية أو نموذج سلوك معلوماتي مُحدّد. وتحترم الفصول كلّها الهيكليّة العامة التي تتناول وصف النظرية وأهدافها والمسارات المنهجيّة وفوائدها. وكذلك يتناول الكتاب مبادئ متنوّعة في ذلك الحقل المعرفي الحديث. ويظهّر نماذج متنوّعة من السلوك المعلوماتي (يرصد كل منها كاتب منفصل)، مع ما يتصّل بذلك من نظريات ك «النظرية البيئيّة للسلوك المعلوماتي البشري» و «الانتشار المعلوماتي» و «التمَوْضُعْ الاجتماعي» و «استجابة القارئ الإلكتروني» و «البحث الأمثل» و «القلق في المكتبة» و «نظرية التدفّق». ويُضاف إلى تلك القائمة مبادئ متنوعة مثل مصادفة المعلومات» و«وقت الفراغ الجدّي» وغيرهما. ويخلص الكتاب في فصله الأخير إلى نظرية شاملة عن السلوك المعلوماتي في البيئات البشريّة المختلفة. وتجدر الإشارة إلى ميزة بارزة في الكتاب تتمثّل في هيكليته العامة. إذ يهتم بوضع فهرس فعّال في نهايته، وهو يساعد فعلياً في تحويل الكتاب مرجعاً مفيداً. وفي المقابل، ربما كان من الأفضل لو جاء الفهرس على ذكر الأسماء المذكورة في المداخلات وأسماء الكُتّاب الذين ساهموا فيها. والأرجح أنّ ذلك يساعد القارئ على اكتشاف الصلات بين النظريات المختلفة ومنهجياتها وأصحابها. ويستهدف الكتاب الشيّق الباحثين الناشطين في مجال السلوك المعلوماتي. واستناداً إلى هيكليته وتنظيمه، يمكن استخدامه بصفته مرجعاً لحاملي الشهادات العليا والطلاب المختصّين في بحوث المعلوماتيّة وعلوم الاجتماع. وكذلك تشكّل المراجع الواردة في نهاية كل مٌداخَلَة دليلاً يساعد على الوصول إلى مزيد من مواد البحث المُفَصّلة. ونظراً إلى أن الكتاب يستهدف مجتمع البحوث أساساً، يظهر نقد متواضع يساجله في شأن عدم تطرّقه إلى معلومات منهجيّة كافية في بعض المداخلات. وفي المقابل، يحتوي الكتاب عدداً كبيراً من المراجع، ما يزيد قيمة الكتاب وإمكان استعماله دليلاً في البحوث، ما يعني أنّ أمره لا يقتصر على مجرد كونه مصدراً لمعلومات عن السلوك المعلوماتي. وتُعوّض تلك الميّزة الأخيرة بعض الشيء عن وجوه من التقصير في تجميع البيانات والتفاصيل. وكذلك يبدو أنّ عدداً من المراجع البارزة جرى تجاهلها في بعض المداخلات. وفي الفصل الذي يتناول «مقاربة المجال التحليلي»، ثمة إغفال لمقال من المقالات البارزة لعالِم الاجتماع هجورلاند الذي كان من أوائل المعرّفين بتلك المقاربة، بل لعله الأول فيها! وعلى رغم العدد الكبير من المساهمين في هذا الكتاب من بلدان مختلفة، ما يعني ضمناً أنه يحتوي على مجموعة مختلفة من أساليب الكتابة، ساعدت جودة العمل التحريري في جعل أسلوب الكتابة متماسكاً وواضحاً. تلخيصاً، من المستطاع القول إنّ كتاب «السلوك المعلوماتي» يقدم نظرة شاملة عن عدد من الهيكليّات المبدئيّة التي تساعد على فهم سلوك الناس المعلوماتي وتفسّره. ويشمل ذلك حاجات الناس إلى المعلوماتيّة، والعلاقات التي تتولد نتيجة بحثهم عن المعلومات، وكذلك النشاطات المتصلة باستخدام المعلومات. كما أنه مصدر ثريّ لأولئك الذين يرغبون في التعرّف إلى أسس البحث النظرية في ذلك المجال المعاصر.