غادر الفنان التشكيلي عبدالله حماس قريته الصغيرة «آل عاصم» القريبة من مدينة أبها قبل أربعة عقود، لكنها لم تغادر إطلاقاً وجدانه، وظل يرسمها موضوعاً أثيراً إلى قلبه في أعماله الفنية طوال مسيرته التشكيلية، وفي معرضه الخامس والعشرين الذي افتتح أخيراً في المدينة الاقتصادية بجدة. يحاول استعادة ذكرياته عن القرية في 60 لوحة يقف أمامها الزائر متأملاً تحول أطلس الذاكرة الملون إلى مقامات لونية ترجماناً للأشواق الجنوبية التي مازالت تلهمه ليرسم بفرشاة الحنين مبتكراً تنويعات أسلوبية جديدة على هيئة جداريات تسرد حكاية عشق الجنوبي لمنظر لقاء الجمال السماوي وأنوثة الأرض الشاعرية، عندما تتعانق الجبال العالية مع قلائد الغيم اللؤلؤية، فتهطل أمطاراً تسقي الغروس والقصاب على ضفاف الوادي، وتجلب رؤية مويجات السيل الفرحة إلى الأحداق، والأمل إلى قلوب عامرة بالإيمان والمحبة، فتطيب أحاديث السمر مع فناجين القهوة المستطابة، وتمرح الجميلات في صباحات الحقول وعلى رؤوسهن قبعات القش الصفراء (الطفشات العسيرية)، وحولهن «العصافير والشجر الأخضر، والشمس تقفز من حائط نحو آخر مثل الغزالة. والماء في السحب اللانهائية الشكل قادمة من المناشئ». حماس تخرج في معهد التربية الفنية بالرياض منتصف السبعينات الميلادية، ومازال يسجل حضوراً نوعياً بمعارضه الدورية على رغم تكرار ثيمات مجمل أعماله الفنية إلا أنه لا يكرر نفسه، كل معرض بالنسبة له مغامرة جديدة ممارساً التجريب من ناحية التقنيات ومعالجة الخامات التي يستخدمها في بناءاللوحة، ولا توجد لديه لوحتان متشابهتان مثل حال بعض الفنانين الذي نضب مخزونهم الإبداعي، وهو أحد أولئك الذين ارتقوا بالمنجز التشكيلي المحلي إلى مرحلة متقدمة. والثيمة الرئيسة في هذا المعرض مقاربة تشكيلية لهذه العلاقة الفريدة بين الزمن والوجود، عندما تفكر ذات الفنان باختراع هيئات وأشكال وترميزات غايتها تشكيل ذاكرة المكان الأزلية واستنطاقها، وتقسيمها إلى شرائح عرض تشبه صور البولارويد القديمة، لإنقاذها من غدر الزمان وآفة النسيان، هذه الحالة يصفها الشاعر جلال الدين الرومي مثل الوقوف «أمام شروق جمال لا يضاهى/ أمام هذه الصورة التي تزهر من الأرض كوردة /كصورة ترفع رأسها خارج القلب/حين تستقر صورة في قلبك /لا مجال للهرب فالصورة في قلبك باقية /إلا إذا كانت صورة بلا جدوى ولا جوهر/تنغرس وتختفي كفجر كاذب». ما يميز حمّاس عن غيره تلك العلاقة التناغمية بين التكنيك وموضوع اللوحة، وأسلوبه المتفرد في ابتكار ملمس خشن للكانفاس باستخدام سكين ينزع بها غلالة الذاكرة ويمزجها مع طبقات لونية مشعة، ويختزل وجودها الشعري إلى بقايا ومفردات تدون تحولات زمنية وتواريخ أحداث ومصادفات عابرة في تأليف تجريدي وتحويرات شكلانية، وأحياناً يمارس الارتجال ما يشبه العزف الموسيقي في صياغة شغوفة وسفر تأملي وطقوس عفوية لاكتشاف تمظهرات اللامرئي، حتى يمكنك تخيل تلك الأماكن والتجول في طرقاتها، وأن تصغي لصخب الأغنيات وأهازيج العرضة الشعبية، وتقف طويلاً عند عمارتها اللونية وتفاصيل التصميم المعماري للأبنية العمرانية الصامدة، وتدرك معنى تلك المساحات في فراغ اللوحة كناية عن المسافات المفتوحة على جبال السروات الشامخة وسهول تهامة المنبسطة، كانت العيون تسبح في الآفاق، والصدور خالية من الهموم، والحياة بسيطة خالية من الضجيج والكدر.