تحفل فضائيات عربية رسمية، هذه الأيام بقصص وحكايات مضحكة، فهي لم تختبر أحداثاً مماثلة بهذا المستوى الثوري العارم من قبل، وكل ما كانت تقوم به في السابق هو التصفيق والتطبيل والتمجيد للزعيم الملهم؛ المفدّى؛ الأوحد...، ولم يكن أحد ليأبه، أساساً، بتلك الانتصارات الزائفة والمقولات الإعلامية السقيمة، أما وقد وقع المحظور، وهب أريج «ثورة الياسمين» على المنطقة، فإن قصص الغباء الإعلامي باتت مكشوفة لفرط بلاهتها، وسطحيتها. ولعل أكثر البرامج بلاهة وغباء تظهر على شاشة قناة «الجماهيرية» العتيدة، التي ما زالت تصم آذانها عما يجرى قرب استوديواتها، وتركز عدساتها نحو فضاءات هادئة هانئة، لترفع الصوت عالياً بمفردات النصر والتحدي والصمود والمقاومة والمجابهة والكفاح...إلى آخر هذه المعزوفة المشروخة التي لا مضمون فعلياً لها سوى ثقلها اللغوي الممل، وبعدها النظري الفارغ. ومن أكثر البرامج المعبرة التي تجسد هذا التوجه الأرعن هو برنامج «عشم الوطن» الذي يقدم على الشاشة الليبية الرسمية، ليكون ضيفها المفضل يوسف أمين شاكير، وهو شخصية أكاديمية حازت عدداً من الشهادات من جامعات مرموقة. للوهلة الأولى، سيعتقد المشاهد بأنه على موعد مع حديث منطقي، يحلل المشهد السياسي الليبي الراهن، ويلمح إلى «هزيمة محتملة» مقبلة، ويرسم صورة ما للمستقبل. لكنّ شيئاً من هذه التوقعات المفترضة لا يظهر في البرنامج، فوجهات نظر الأكاديمي تأتي مفعمة بصفات التخوين والعمالة والمؤامرة وبيع الأوطان، وهو خطاب يتناغم تماماً مع خطابات «قائد ثورة الفاتح» لدى وصفه لخصومه ب «الجرذان، وشذاذ الآفاق». بل أن الأكاديمي يتفوق على قائده في الاستنجاد بقاموس «التخوين العربي» الذي ينضح بعبارات لا يصدقها أي مبتدئ بالسياسة، وهو يدعم هذه المزاعم بحركات ساخرة وإيماءات مخجلة تسعى إلى النيل من «الثوار» و»القبائل المعارضة» ومن حلف شمال الأطلسي بكل جبروته، وكأن الزعيق بين جدران الأستوديو، ونبرة الصوت العالية ستمنح هذا التهريج المفتعل «صدقية غائبة». والمفارقة المريرة، هنا، هي أن هذه الفضائيات؛ العاجزة تماماً عن تحقيق ما تصبو إليه، ويصبو إليه مالكوها، تشكو من أداء الفضائيات المغرضة ومن أكاذيبها وفبركتها للأحداث، ومن مبالغاتها المزعومة. الكذب والفبركة والمبالغة ديدنها، فهي اعتادت على ذلك لعقود، في أيام السلم والطمأنينة، فكيف إذا حدث أمر طارئ وجلل؟ إنها تستحضر كل أسلحتها في فن التضليل والخداع لعلها تلوي عنق الحقيقة وفق ما تريد وتتمنى. ولكن يبدو أن رياح الثورات العربية تسير على عكس ما تشتهي سفن «الفضائيات المدجنة»، وستظل برامج من قبيل «عشم الوطن» مجرد صرخات خائبة أمام صيحات الثائرين التي ملأت الفضاء العربي وعمدته بالدم القاني، فأي رجاء، إذاً، ينتظره «مهندسو القمع» من النفاق واللغو وقصص الغباء، بل الموت المعلن؟