الدخول إلى عوالم مكةالمكرمة، متعةٌ في ثوب «مغامرة»، أحياؤها وتفاصيل حياتها أشبه برواية من روايات ألف ليلة وليلة، الحياة في مكة لا تحتاج إلى تقديم، فهي أقرب إلى البساطة منها إلى التعقيد، ويبدو أن مجاورة البيت الحرام، طمست كل الفوارق الاجتماعية بين غني البلد وفقيره. « الكونكارية» أحد أحياء مكة التي تمتاز بهذا الخلط العجيب من الثقافات المتعددة، واللكنات أو اللهجات المختلفة، كون غالبية سكانها لا ينتمون إلى فئة معينة أو جماعة متآلفة، فقاطنوها فيهم الهنود، والسنود والأفارقة، والبروماويون، والجاوه، في مزجٍ وخليط لا يتكرر إلا في مكة ولا يوجد إلا في أرضها الطاهرة. ياسين الريمي من سكان المكان، وممن اختزلت ذاكرتهم شيئاً عن ردهات الموقع ودهاليزه، أكد أن حيهم ليس حكراً على قبيلة أو مجتمع بعينه، إنما هو مجتمع مفتوح لكل من وجد فرصة للسكن فيه سواء كان سعودياً أو أجنبياً، مشيراً إلى أن في «الكونكارية» لا فرق بين أحد، فبمجرد أن تسكن في بيتك تجد الجميع من حولك يأتون، ويسلمون، ويتعارفون من دون أي حسابات أخرى، أكنت عربياً أو عجمياً فالإخاء والتآلف سمة حينا الذي نسكنه. ويشير الريمي إلى أن في حارة « الكونكارية» المنتصبة بمنازلها العشوائية ومدخلها الضيق، في أعلى حي المسفلة المكاوي الشهير، تمتزج ثقافات الشعوب وتنصهر في بوتقة «الحارة»، لا فرق بين السعودي وغيره، وسط هذا التجمع الصغير، ولا مجال للتمييز العرقي والعنصري. ويتلقط خيط الحديث منه لشاب عامر هوساوي، ويؤكد أن أهم ما يعيب الحي وساكنيه أن الطريق إليه ضيقة جداً، ولا يسمح بعبور أكثر من سيارة واحدة، مشيراً إلى أن الكثير من أهل الحارة استغنوا عن السيارة، واكتفوا باقتناء «الدباب»، لسهولة الصعود والنزول من خلاله، لافتاً إلى أن وعورة الجبل ليست السبب الوحيد في الاستغناء عن السيارة، فالحال الاقتصادية المتردية للسواد الأعظم من ساكني «الكونكارية»، دعمت كثيراً هذا التوجه الجماعي. والمثير للغرابة أنك تشاهد داخل أرجاء الحي تجار «شنطة» يتحدثون في ما بينهم باللغة البنغالية، وآخرين يرطنون «البرماوية»، وعلى ناصية الشارع الضيق يجلس شبانٌ أفارقة يتحدثون «الهوسا»، ويمر بينهم من يطلق العبارات الهندية، في حين تجمعهم اللغة العربية متى ما كان الحديث جماعياً، ففي هذه المدينة، تحضر كل الألسن العربية والأعجمية وتطفو غالبية السحن. وبينما نحن في صعودٍ نحو أعالي الحي، يستوقفنا رجل ستيني بدا أنه من أهل الحي القدماء، مؤكداً أهمية أن نستوثق الحديث من أهل الجبل الأصليين، ويقول سمير سنبلة: «أصبحنا أقلية في الحي بعد انتشار الوافدين فيه، والذين تربعوا فيه، وباتوا هم أهل المكان وسادته»، مشيراً إلى أن الممرات الضيقة وصعوبة النزول من أعلى الجبل، وأسباباً أخرى جعلت الحي يعيش في عالم آخر، أدت لبروز أسواق خاصة للجاليات هناك كالسوق الكبير والسوق الصغير. ويشير إلى أن هذا الاستيطان قلب الطاولة رأساً على عقب لدرجة أنك تشاهد كثيراً من المحال التجارية الصغيرة هنا كتبت لوحاتها بأكثر من لغة، فضلاً عن المباسط المتواضعة، والتي يقوم عليها بعض المقيمين من الجاليات الآسيوية، يبيعون اللحم المكشوف، والدجاج، والخضراوات و«التنبول»، وبعض المأكولات الآسيوية، والعربية، بأسعار زهيدة. وأكد أن سوق الحي لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة البلدية، لكنها تقي فقراء الحارة شيئاً من العوز، مشيراً إلى أنه اعتاد على نمط العيش هنا، ووصل به الأمر إلى معرفة أسماء أنواع كثيرة من الأطعمة الآسيوية والأفريقية. يقول: «أبنائي يعرفون أكثر مني عن الحارة»، يؤكد أن منهم من يتحدث لغات أخرى كلغة «البورما».