إذا كان حي الحجون واحدا من أقدم أحياء مكةالمكرمة، فإن حارة «المدابغية» هي أقدم حارات هذا الحي المختلف كليا عن أحياء مكة، إذ امتزجت فيه روائح أشجار العرعر والشبث مع روائح الجلود في المدابغ المنتشرة في الحي وبواقع 50 مدبغة. يمكن القول إن هذا الحي بني على الصنعة المكية التي اندثرت ولم يعد لها أثر في مدينة عرفت بالتقاء الصناعات والثقافات كونها مظلة تلتقى تحتها الجاليات الاسلامية. وتقع حارة المدابغية، التي دخلت مع الحي ضمن المنطقة المركزية بعد صدور الأمر السامي بتنفيذ نفق للمشاة فيها، على جبل السيدة المطل على مقابر المعلاة، وتمتد إلى كراج عبدالحليم على يمين النازل من طريق الحجون، وفي الحارة كثافة سكانية مهولة إلى حد الاختناق. ويعود تاريخ المدابغ فيها إلى أكثر من 300 عام، كما يؤكد محمد عبدالقادر مغربي، الشيخ الذي يعيش في الحارة منذ أعوام طويلة. يقول: «كان المغاربة القادمون للحج أشهر من اشتغلوا في هذه الصناعة، وكان لكل صاحب مدبغة منزل بجوارها، وكانت الجلود تجلب من مسالخ مكة وخاصة مسلخ البلدية الواقع اليوم في مقر سوق العتيبية في شارع الأندلس»، وحول طريقة عمل المدابغ يشرح المغربي، «يوضع الملح على الجلود لمنع التعفن ثم تنظف من شوائب اللحوم الزائدة والشعر، ثم توضع في أحواض كبيرة، بعدها تدبغ بقشر الرمان وأشجار الشبث والعرعر التي تجلب من جبال الهدا في الطائف ويصنع منها الأحذية والجواعد والدفوف». ومن أشهر الصناع الذين زاولوا هذه المهنة، يتذكر المغربي كلا من، إدريس طالب وحسن حميش وحامد معاش وعبدالقادر أشقر وعبدالرحمن مهدي الدباغ، وهولاء توارثوا الصناعة عن أجدادهم، وكانت آخر مدبغة في الحي لليسد حسين عباس طالب قبل 40 عاما. ويعتبر مسجد أبي ترابه الذي بني قبل نحو 200 عام أحد معالم الحي المميزة، وكان لبناء هذا المسجد قصة رواها لنا أحد أقدم سكان الحي وهو عبدالعزيز صالح زيني، يقول «ارتبط المسجد بتاجر هندي قدم للحارة لشراء كميات كبيرة من الصوف المنزوع من الجلود، ونذر على نفسه أنه إذا كتب الله تعالى له الكسب بعد تصديره للهند سوف يقوم ببناء المسجد وبعد أن تحقق له ما أراد قدم مرة أخرى إلى مكة وبنى هذا المسجد». ويمكن الولوج إلى الحارة عن طريق مدخلين يتيمين لا يتجاوز عرضهما سبعة أمتار، ولكن بشوارع متآكلة وسائقين مهرة. فنحن وجدنا صعوبة كبيرة في الدخول والخروج، بينما أبناء الحي يعبرون الشوارع الضيقة بطرقة احترافية قل أن تراها في غير مكان. لكن وضع الشوارع أثار سؤالا مهما لم نجد له إجابة حتى من أهل الحي نفسه، كيف يمكن لسيارات وآليات الدفاع المدني القريبة من الحارة أن تباشر حادث حريق في أعلى الحارة الغارقة في الضيق؟. صورة أخرى تميز الحي القديم، وهي الكثافة السكانية الكبيرة من العمالة الآسيوية التي تعمل في سوق العتيبية أشهر أسواق العاصمة المقدسة المتخصصة في بيع الملابس النسائية فيما تظل مساكن حارة المدابغية ملاذا للخادمات الهاربات، ويؤكد حسين أشعري أن 60 في المائة من الباعة الجائلين الأجانب يسكنون منازل المدابغية وكثير منهم أعمارهم لا تتجاوز الثالثة عشرة. وعند خروجنا من الحارة لاحظنا كثرة السيارات التالفة.