بعدما ظنّ العالم أنّ القضية الفلسطينية هرِمت، أطلّت عهد التميمي (16 سنة) بوجهٍ متّقد، فأسقطت هذا المنطق. تجربة «ثورية» واعدة خرجت من إطار المشهد اليومي في فلسطين لتحتلّ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. منذ اعتقالها في منزلها حتى لحظة مثولها أمام المحكمة الإسرائيلية بتهمة «إهانة» العدوّ، قدّمت عهد، من دون رسمٍ مسبق، صورة جديدة عن النضال الفلسطيني، وبدلاً من أن تكون «ضحية» غدت «أيقونة» تمنح الآخرين قوّةً وأملاً بأنّ الحقّ آتٍ لا محالة. عهد ليست الفتاة الأولى التي تواجه المحتلّ بصلابة الكبار، لكنّ عوامل كثيرة ساهمت في صنع «أسطورتها»، تبدأ بمحدّدات شخصية (حداثة السنّ، والملامح الأوروبية، والتعابير الحادة، والشخصية الجسورة)، وتنتهي بظروفٍ عامّة فرضها اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس «عاصمةً لإسرائيل». ويبقى الأهمّ أن الفتاة الشقراء قدّمت صورةً غير متوقعة عن جيلها، الجيشل المصرّ على المضي في طريق هلك فيه أسلافه، من دون أن يخسر شيئاً من صلابته. هذا ما أرادت الفنانة الإيطالية أليسيا بيلونزي توثيقه عبر لوحتين باعدت بينهما أيّام قليلة، بطلاهما عهد التميمي والفلسطيني فوزي الجنيدي. «عهد» اللوحة الأحدث، منقولة من صورة حقيقية التُقطت للشابة في قاعة المحكمة. ولأنّ الصور لا تحتاج إلى وسائط تعبيرية أخرى، قررت بيلونزي ألا تُخضع الرسم لأيّ زيادةٍ أو نقصان. وإذا استُثني اللعب على الألوان، نجد أنّ لوحة «عهد» تتطابق مع الواقع حتى تكاد تكونه. هذه الواقعية راسخة في أعمال الفنانة الآتية من خلفية العمل الصحافي، وهذا ما يُلاحظ أيضاً في لوحة «الجنيدي»، التي صوّرت فيها الفتى فوزي الجنيدي (16 سنة) يقتاده جنود الاحتلال الإسرائيلي معصوب العينين أثناء تظاهرات مناهضة لقرار ترامب في الخليل. في هذه اللوحة، استخدمت بيلونزي تقنيات فنية طمست خلالها ملامح الجنود المدججين بالسلاح، مركّزةً على وجه الشاب بعينيه المعصوبتين وقميصه المزدان بألوان العلم الفلسطيني. لوحة تحمل الكثير من الغضب والحزن والتضامن مع شعب أعزل يواجه قوّة عسكرية لا تعرف الرحمة. أمّا في «عهد»، فظلّت الرسامة على مسافة من لوحتها، كأنّها تركت مهمّة التخييل للوجه نفسه. شفتان مزمومتان تضمران ابتسامة لا تخلو من ظفر. نظرة ينبثق منها التباسٌ غنيّ، تقرأ فيها جسارة لا ينقصها خفر. الضحية هنا تبدو أقوى من جلادها، وهذا ما لم نعتده في التعبيرات الفنية المرتبطة بالمسألة الفلسطينية القائمة أساساً على ثنائية النكبة والخيبة. أهملت بيلونزي الشقّ الشكلي الذي اهتم به الآخرون، فلم تُبرز زرقة العينين ولا الشعر الأشقر، إنما اختارت التركيز على تعبيرات وجه يُعلن ولادة «عهد» جديد تغيب فيه الصورة النمطية للشخصية الفلسطينية، لتحلّ مكانها صورة مختلفة يؤمن أصحابها بأنّ التاريخ لا يعني دائماً ما حدث، ولكن ما سيحدث. في ضوء معاينة تجربة عهد التميمي، «موناليزا» فلسطين و «أيقونة» الراهن الفلسطيني، تُداهم ذاكرتنا أسماء يافعين آخرين دخلوا التاريخ بمواقف نضالية عجز عنها «كبار» زمانهم، بدءاً من الفتى الفرنسي كميل ديمولان، الذي حطّم الباستيل مُعلناً أكبر الثورات الأوروبية، وصولاً إلى الفتاة الباكستانية ملالا يوسفزي التي واجهت حكم «طالبان» ورصاصهم القاتل. فهل تفتتح المناضلة الصغيرة «عهداً» نضالياً جديداً، أم أنها ستعبُر مثل طيف جميل في سجلّ فلسطين المنكوبة؟