أُخذت تركيا على حين غرة بالثورات المتسارعة في المنطقة. ونظراً الى اتباعها سياسة تفادي أي مشاكل مع الحكومات الاقليمية، التزمت انقرة الصمت حيال الاحداث في تونس ومصر في بداياتها، لكنها سرعان ما عدلت مواقفها للتماشى مع التطورات. لم يجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان صعوبة بالغة في الانضمام الى الدعوات لتنحي حسني مبارك، على خلفية نفور نشأ بين الجانبين نتيجة الخلافات حول الملف الفلسطيني (غزة والمصالحة)، هذا التعاطي السهل لم يكن متاحاً في ما يتعلق بالوضع الليبي لدولة مثل تركيا، بنت سياستها الخارجية تماشياً مع مصالحها الاقتصادية في مجالي التصدير والاستثمارات، ما اضطرها الى نسج علاقات متينة مع حكومات "الامر الواقع". من هنا، وجدت أنقرة نفسها في مواجهة أزمة جدية في ليبيا حيث كان يعمل 25 الف تركي في تعاقدات ببلايين الدولارات خصوصاً في مجال البناء، ابرمت مع حكومة معمر القذافي، لذا تحولت امكانية سقوطه الى هاجس بالنسبة الى الاتراك الذين لم يكونوا تعرفوا بعد على من يطرحون انفسهم بديلاً له. وتوترت العلاقة بين الثوار الليبيين والحكومة التركية التي عارضت فرض حظر جوي دولي على قوات القذافي، ثم قبلت هذا الحظر على مضض، مع تمسكها بمعارضتها التدخل الاجنبي لمساندة الثوار. اردوغان الذي اكتفى سابقاً بالدعوة الى وقف للنار بين "طرفي النزاع" في ليبيا ومفاوضات اعتبرت على نطاق واسع مدخلاً لاعادة "تعويم" حكم القذافي، فاجأ الليبيين هذا الاسبوع بدعوته القذافي الى التنحي ومخاطبته الثوار الليبيين بشكل ودي، معترفاً ب"معاناتهم" و"نضالهم" و"عدالة" قضيتهم. بغض النظر عن مسببات هذا التحول والناتجة اساساً من تعنت القذافي، فان الموقف التركي الجديد شكل منعطفاً مهماً واساسياً في تطورات الاوضاع في ليبيا، اولاً لان موقف اردوغان المهم ولو أتى متأخراً، يشكل مؤشراً جدياً الى قناعة أنقرة بان سقوط القذافي اصبح حتمياً، وايضاً لان في وسع تركيا ان تضفي مشروعية اقليمية على أي عمل "أطلسي" لتسريع هذا السقوط. ويجب عدم اغفال ان قبائل ليبية عديدة ومهمة هي ذات اصول تركية وتكاد لا تخلو منطقة في ليبيا من التصنيف التقليدي لسكانها بين قبائل اهلية محلية قادمة من انحاء المشرق والمغرب، او "كوارغلية" وهي كلمة تنبع من تحريف للاسم العثماني "كول أوغلي"، وكول هي صفة للجندي الإنكشاري باعتباره من جنود السلطان العثماني، أما "أوغلي" فتعني ابن بالتركية. وشكلت دولة الخلافة العثمانية مرجعية طبيعية بالنسبة الى الليبيين الذين ظلوا على ولائهم لها حتى بعد انسحابها من بلادهم في مواجهة الاستعمار الايطالي ابان الحرب العالمية الاولى. وظل المجاهدون الليبيون الذين يفخر بهم احفادهم اليوم، على ولائهم هذا الى ان حل "الاتاتوركيون" محل السلطنة وفككوا ارثها في المنطقة. من هنا، فان عودة تركيا الى ليبيا من الباب الواسع اذا صح التعبير، تشكل عاملاً مطمئناً بالنسبة الى الليبيين وتعطي الثوار حجة لمواجهة مزايدات بعض الجهات الاقليمية، سواء الدينية المتشددة التي تأخذ عليهم استنجادهم بالغرب، او مزايدات بعض حلفاء القذافي المتمسكين بشعارات "عروبية" و"قومية" واهية، لم تقدم الى الشعوب سوى نكسات وخيبات منذ قدوم انظمتها على ظهور الدبابات لتجثم على صدورهم وتستحوز على مقدراتهم وتحرمهم من فرص التقدم والتطور. بات في وسع الليبيين رسم سيناريوهات عدة للمساعدة التي يمكن ان تقدمها تركيا لازاحة القذافي وعائلته عن الحكم، لكن الدور الاهم الذي يمكن ان تلعبه أنقرة هو في اعادة بناء الدولة الليبية، على أسس متينة، بعدما اثبت حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، التزامه بالديموقراطية ودولة المؤسسات وقدرته على صونها. ولعل في ذلك نموذجاً للدولة الليبية التي ستقوم على انقاض الفوضى والفراغ اللذين خلفهما الحكم البائد... عسى ان تكون في خطوة اردوغان عبرة لدول شقيقة وصديقة يجمعها بليبيا تاريخ متجذر، لتسارع هي الأخرى الى ركوب قطار التغيير.