افتقدت المسيحية الأولى (اليسوعية) الشمول الضروري لدين يود أن يؤسس للحياة ويصنع التاريخ؛ فالمسيح لم يأت بتشريع جديد ولا حتى بطقس من طقوس العبادة، وإنما فقط بتصور مثالي عن فضائل الحب والتسامح والتقوى استعداداً لحلول مملكة الله التي آمن بها هو كما آمن بها سائر مواطنيه، إلا أنه فهمها وعبّر عنها بطريقته الخاصة في إطار الديانة اليهودية. وعلى رغم أن بعض المسيحيين يرون في عظة الجبل بالذات نقلة تشريعية في المسيحية تجاوزت بها اليهودية إلى طور جديد، ويعقدون لذلك مقارنة بين الشريعة القديمة (اليهودية) والشريعة الجديدة (المسيحية)، فإن ما ورد في هذه العظة أو ما يماثلها على لسان يسوع لا يمثل في الحقيقة تشريعاً جديداً، ولا معارضة لشريعة موسى، بل مجرد ألوان من التسامح، اللهم إلا في قضية الطلاق الذي حرمه المسيح إلا لعلة الزنا. ومن ثم ظلت التوراة مصدراً للشريعة المسيحية، إذ جاء على لسان المسيح: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (متى، 5: 17). لقد أسس السيد المسيح وألهم أتباعه وحوارييه مفهوماً عن دين روحاني «مجرد» ينبذ أي توجه لتغيير العالم الخارجي، بل وينظر إلى ذلك باعتباره نوعاً من خداع النفس لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركاً خلفه عالمنا الخاوي، الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه! إذ يُروى عن المسيح قوله للشاب الذي أراد التعلم منه: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد بالزور. أكرم أباك وأمك، وأحبب قريبك كنفسك... فقال له الشاب: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد ذلك. فقال له يسوع: «بع أملاكك وأعط ثمنها للفقراء وتعال اتبعني. فلم يقبل الشاب، فقال عيسى: يعسر أن يدخل غني ملكوت الله... ولدخول الجمل في ثقب إبرة أيسر من دخول الأغنياء ملكوت الله». (متى، 19: 18 – 23). الأمر الذي يبدي المسيحية، وكأنها تحارب العمران وتكره المال. وقوله أيضاً: «كل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ منه ضعفاً ويرث الحياة الأبدية» (متى، 19: 29). «فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره. (متى، 6: 31 34). ولا يتوقف الأمر على إنجيل متى، بل تنسج بقية الأناجيل على المنوال نفسه سيكولوجية رافضة عملياً الانشغال بالعالم الدنيوي وغير مهمومة بتغيير التاريخ: «مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلِّم إلي اليهود ولكن الآن ليست مملكتي من هنا». (يوحنا، 18: 36). وهكذا تمثل الأناجيل بشارة لأعمق ما في الوجود الإنساني من حقائق، وأسمى ما فيه من درجات التسامح التي تبلغ ذروتها الشماء في موعظة الجبل: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى، 5: 43 44). «سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً» (متى، 5: 38 41). ولكن هذه الروحانية الشماء تبدو ضداً لمنطق الحياة الواقعية، ولا يمكن فهمها إلا بكونها جسراً إلى عالم آخر لا يمكن نيله إلا بهجر هذا العالم والتسامي على معطياته. ومن ثم شعر المسيحيون منذ البداية بأن عليهم العزوف عن «الدنيا»، والزهد في الحياة زهداً يؤول بالمؤمن الحقيقي إلى اعتزال العالم؛ ولذا صارت المسيحية «الأولى» ديناً مجرداً لا يمكنه التأثير في وضع الإنسان في التاريخ، والذي لا يتغير إلى الأفضل عبر صلوات أو ترانيم بل عبر قوة مدعمة بالأفكار أو المصلحة أو بكلتيهما. ومن ثم نمت الكنيسة الكاثوليكية في ظل علاقة مراوغة بين الإنسان كوجود واقعي، تتناوشه الغرائز وتداعبه الطموحات، وتضغط عليه الحاجات، وبين الإنسان كمفهوم مسيحي، مهموم بالمثال، ومطالب بالاستغناء، فكان عليها أن تدير هذا التناقض الذي دفع بالإنسان المسيحي إلى أتون صراع وجودي كانت كفته تميل باستمرار لمصلحة الانشغال الدنيوي وضد المثالية الروحية. وهكذا ظل المسيحي «المؤمن» يحيا في عالمين منفصلين... المثل الأعلى الروحي المنشود، المتناقض مع الواقع، غير المكترث بحركة التاريخ من ناحية. والواقع الدنيوي الصعب، الذي انفلتت فيه الإرادة إلى حد الطغيان، بحجة السيطرة على التاريخ من ناحية أخرى. هذان الخطان يسيران في الاتجاه نفسه متجاورين ولكن على غير اتصال، ومن ثم فالمسيحي المؤمن مطالب بالاختيار بين أمرين: فإما امتلاك التاريخ وفقدان الإيمان، وإما تجسيد الإيمان والنفي من التاريخ! ولم تبدأ المصالحة بين المسيحية والحياة الدنيوية إلا مع الإصلاح الديني، عندما أكد المصلح البروتستانتي جون كالفن نوعاً من (الزهد النشيط)، اعتبر بمثابة الجسر القادر على الربط بين المسيحية، والواقع الأوروبي الحديث. ففي سياق الأخلاق الكالفينية، تم تحطيم المفهوم المراوغ عن الإنسان، ككائن يمزقه التناقض الوجودي بين روحانية نظرية ودنيوية عملية، لمصلحة مفهوم موضوعي يرى الإنسان ك «زاهد نشيط»، لديه دوافع غير آثمة للعمل والكفاح والثراء، وهو مفهوم لا يمكن تقدير أهميته إلا في ضوء السياق التاريخي الطويل الحاضن المسيحية الكاثوليكية، وربما الأديان الهندية (البرهمية والبوذية)، التي طالما عولّت على صناعة المؤمن «الزاهد»، ولم تكترث بخلق المؤمن «النشيط»، على منوال ما كان متصوراً قيامه نظرياً في اليهودية والإسلام، حيث الحافز الدنيوي للنشاط قائم وموفور منذ البداية. كانت الكالفينية في جزء منها تناغماً مع مطالب عصر جديد (مسيحي) يعول كثيراً على النشاط وإن استبقى نوعاً من الزهد، عندما جعلت النجاح المادي أمراً، ليس فقط مشروعاً ما دام مؤسساً على الرغبة في تنمية الثروة مع الزهد في الاستمتاع بها، بل ومرغوباً فيه أيضاً كطريق للخلاص الأخروي وعلامة على النجاح في تحقيقه. وفي الجزء الآخر منها كانت محاولة لصوغ شرط جديد (إنساني)، أكثر توازناً، يتصور للإنسان دوراً أكبر في السيطرة على المصير، وحفز حركة التاريخ... إنسان يمكن وصفه ب «التكاملي»، ينطوي على الشعور العميق بالمحبة والإيمان ولكنه دائم التطلع إلى بلوغ المعرفة وتنمية الثروة. إنسان لا يطمح إلى روحانية الزاهد، ولكنه لا ينفلت من الجوهر الأخلاقي للإنسان، نعم لديه دوافع العمل والرغبة في الكفاح، ولكن من دون أن تورطه تلك الدوافع والرغبات في نزعة اكتناز الثروة أو تسلط على الآخرين. وقد ذهب ماكس فيبر بهذه الصيغة إلى مداها، مجسداً تغلغل النظرة التنويرية المتفائلة في المسيحية، وذلك في أطروحته الكلاسيكية «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» التي مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجاً خلاقاً، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التي صاغت عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة. وهكذا استخلص فيبر في بداية القرن العشرين فهماً جديداً للروح البروتستانتية، جوهره أن على المسيحي المخلص أن يتبع النداء الداخلي بالاستفادة من الفرصة التي منحها الله إياه، فإذا أراه الله طريقاً يستطيع أن يحصل منه قانونياً على أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر، من دون أن يظلم روحه أو أي روح أخرى، ورفض ذلك واختار الطريق الأقل ربحاً، فإنه يعارض واحداً من أهداف عمله ويرفض أن يكون خليفة الله في الأرض، إذ يرفض قبول عطاياه واستخدامها من أجله عندما يطلب ذلك، إذ يتعين عليه أن يكدح ليكون غنياً من أجل الله، وليس من أجل متعة الجسد أو الملذات الآثمة. وهنا أكد فيبر نوعاً من النفعية الاقتصادية «الحكيمة» كقبول الاقتراض بالفائدة، وتأكيد المقولة الأساسية في شأن «المسيحي النشيط» الخادم الله وإخوانه بفضل نشاطه، استناداً إلى رفض كالفن الصارم ذلك التصور الأسطوري التقليدي عن دائن واسع الثروة ومدين بائس، وإلى أنه لا يمقت مبدأ البحث عن الربح، إذا ظل ربح هذا الإنسان المسيحي، الموجود بفضل العناية الإلهية، غير مضر للآخرين. فالثروة إذا، ووفق الأخلاق البروتستانتية الجديدة، سيئة فقط لو كانت إغراء بالكسل والتمتع بالحياة الآثمة، واكتسابها سيئ عندما يكون بهدف العيش فيما بعد في اللهو واللامبالاة، ولكنها عندما تكون أداء لواجب في العمل، لا تكون فقط مقبولة أخلاقياً بل مفروضة فعلياً. وقد أدى هذا النوع من التفكير إلى عقلنة الحياة الاقتصادية، فاتخذ الزمن أو الوقت دلالة جديدة معادلة للقيمة والمال، ولم يعد التاجر الناجح هو حتماً مسيحياً ماكراً، بل صار مسيحياً نشيطاً، وهو الإدراك الذي بات محبذاً لدى البرجوازيين المتدينين، أو غير المعادين الإيمان على الأقل، بديلاً من الكهنوت الكاثوليكي المضني للعقل، أو التأمل الشارد في الملكوت الإلهي. وهكذا قدم فيبر، تأسيساً على عمل كالفن، حلاً ناجزاً لمعضلة العلاقة بين المسيحي والحرية، بين الإيمان والحداثة، بين الروحانية الدينية والإيجابية التاريخية، فلم يعد المسيحي زاهداً وعاجزاً بالضرورة، بل نشيطاً وحراً أيضاً، على طريق انبلاج العصر الحديث، حيث تمكن الفكر الغربي من تجاوز مأزقه التاريخي، ولوجاً إلى مرحلة أعلى في تطوره لا تزال تحكم التيار الأساسي فيه.