منذ قرابة الأسبوعين وفي هذا المكان بالذات كتبنا: «... ان المواجهة في سورية تبدو وكأنها محددة بأمرين اثنين، إما التعبير عن انحناءة معينة من جانب النظام كي تمر العاصفة، أو مواجهة الوضع الخطير باتخاذ قرارات جذرية تتصف بالحزم والحسم بشتى الوسائل المتاحة للنظام» («الحياة» 16 نيسان/إبريل 2011). والذي حدث أن النظام أقدم على «انحناءة» ولو متواضعة بالتجاوب مع بعض مطالب المتظاهرين، لكنها جاءت متأخرة على ما يبدو، فكان اللجوء الى كل ما تشهده المدن والمحافظات السورية، باعتماد كل الوسائل المتاحة للنظام. إن الأجواء البركانية القابضة على واقع المنطقة تتابع جولتها في دول الإقليم. وحتى الأمس القريب وفي الحديث عن إمكان بقاء سورية بمنأى عن «فيروس» التغيير والإصلاح، كانت الآراء تركز على أن خصوصية الوضع السوري تلعب دورها وقد تؤمن لها الحماية من انتقال العدوى إليها. لكن تسارع الأحداث باغت غير طرف، وأكد أن ما من أحد لا أشخاص ولا أنظمة تحميهم من حتمية دوران التاريخ عندما تدق الساعة. وبمعزل عن التطورات الميدانية وسقوط العدد الكبير من الضحايا من الجانبين: الثوار ورجال الأمن، فالأمر المؤكد أن هناك مطالب محقة للمتظاهرين وقد اعترف الرئيس بشار الأسد بذلك وأعلن عن سلسلة في الإصلاحات، لكن التظاهرات استمرت، عندها أدرك النظام مدى خطورة ما يواجه من مطالب مشروعة في الداخل ومحاولة توظيف التظاهرات بفعل «عامل خارجي» كما تقول دمشق. وعمد أصدقاء النظام الى توجيه انتقادات شديدة لما تطورت فيه الأحداث من نتائج دموية كارثية، لكن النظام يقول إنه كأهل مكة أدرى بشعابها! لكن أصدقاء دمشق عبّروا عن الرغبة في أن لا يكون فرض الأمن بالقمع هو المبدأ الذي يجب تبنيه للتعاطي مع مطالب المتظاهرين المحقة. وفي الحديث عن وجود «أجندة خارجية» خلف ما جرى، يعود الوضع بنا في الذاكرة الى ما قبل نهاية ولاية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، عندما طلب الرئيس من مستشاري مجلس الأمن القومي تقديم اقتراحات محددة لكيفية التعامل مع سورية. وبعد التداول في الكثير من الأفكار استقر الرأي على ما يأتي: أن إمكان تغيير النظام السوري من رابع المستحيلات، وأن الخيار الأفضل يكون بدعم الجماعات المعارضة للنظام بما تيسر من أموال وعطاءات على اختلاف أنواعها. وبدأ سريان مفعول هذا القرار منذ العام 2005 وحتى الأيام الأخيرة. وما شهدته المدن والمحافظات السورية لقي الكثير من ردود الفعل إقليمياً ودولياً. ومن ذلك ما شهدته تركيا من لقاءات ومداولات مع خبراء الشأن السوري والتي انتهت بمناشدة الرئيس بشار الأسد وقف حمامات الدم بين قوى الأمن والمتظاهرين وكان لافتاً الموقف المعادي لرجب طيب أردوغان لدمشق وترأس رئيس الوزراء التركي اجتماعاً في أنقرة كان محور الأبحاث فيه «تأمين انتقال الرئيس بشار الأسد من سدة الحكم الى أي مكان آخر يختاره». وهذا الحديث كان مدعاة الى الغضب وعدم الارتياح في الدوائر السورية. أما على الصعيد الدولي، وإضافة الى مختلف التعليقات التي نددت بما جرى ويمكن أن يجري، وحين أحيل الأمر الى مجلس الأمن الدولي لإصدار بيان رئاسي يستنكر ما جرى، ظهرت معارضة شاجبة من جانب روسيا والصين ولبنان لاستصدار بيان يدين ممارسات السلطة ضد المتظاهرين. وما جرى يجعلنا نطرح التساؤل التالي: هل أن ما جرى في أروقة مجلس الأمن الدولي يعيد فتح فصول الحرب الباردة من جديد؟ وبانتظار اتضاح الموقف العام في سورية أكثر فأكثر، يشهد الكثير من الجبهات العربية حالات مشتعلة بالغة الشدة والخطورة. وفي طليعة هذه الجبهات ما يجرى في ليبيا حيث يبدو بصورة متزايدة مدى تورّط القوات الأطلسية على الصعيد العسكري، وها هو معمر القذافي «صامداً» في طرابلس الغرب وما زال يملك بعض الأوراق للتفاوض عليها. يقابل ذلك حالة الإرباك داخل الأسرة الأطلسية حيث ينصح القادة العسكريون رؤساء بلدانهم بضرورة العمل على حل سياسي للأزمة، لأن الحسم العسكري غير وارد حتى الآن على الأقل. وفي مقال سابق بعنوان: «ليبيا: حرب أهلية قد تنتهي بالتقسيم» («الحياة» 5 آذار/مارس 2011). وهذا ما يحدث حالياً، حيث تمكن القذافي من استدراج الغرب الأميركي والأوروبي الى ما يشبه حرب استنزاف، فيما تصر العواصمالغربية على اختلافها على استئصال القذافي من جذوره. وتتهافت واشنطن وباريس وعواصم عالمية على اختلافها على قطف ثمار التخلص من حكم القذافي. وفي هذا المجال يبدو أكثر من مؤشر على أن المنطقة تشبه الظروف التي رافقت الغزو الأميركي والبريطاني للعراق حيث نجحت قوات التحالف في الإطاحة بصدام حسين لكنها فشلت فشلاً ذريعاً وحتى الآن، في إيجاد النظام البديل. فهل يصح التساؤل التالي: هل أن ما يجرى في طرابلس الغرب وبنغازي وسائر المواقع المختلفة سنياً وهو شبيه بالحرب التي اندلعت وسط شعار ثبت بطلانه وهو أسلحة الدمار الشامل، بطبعته الليبية؟ ووسط حالة الغليان السائدة في المنطقة كيف يمكن استشراف الآتي من الأيام والشهور؟ في سورية: يجرى السباق المحموم متأرجحاً بين سعي النظام الى القيام بخطوات استدراكية لاحتواء غضب الشارع، والكشف عن ملابسات ما حدث فعلاً بشكل مباشر وليس كما نقلته الفضائيات العربية. والأمر المؤكد أن الهدف الرئيس والوحيد بالنسبة الى الرئيس بشار الأسد هو الخروج من هذه المحنة ومتابعة السلطة بشتى الوسائل، لأن النظام في دمشق لا يحتمل الهزيمة، لأن الهزيمة تعني نهاية هذا النظام بكل تأكيد. وفي جوجلة لمجموعة المواقف التي صدرت عن واشنطن وعن دول غربية أخرى يتبين أن الدعوات التي أطلقت تدعو الى تغيير سلوك النظام أكثر من الدعوة الى تغيير النظام! من وحي ما شهدته دمشق وسائر المدن السورية يمكن إضافة تعبير «السورنة» الى معجم مفردات المرحلة القائمة. وهناك تفصيل ولو أنه جزئي قياساً على الأجواء المشتعلة، وهو يتمثل بإعلان السلطات الأميركية عن فرض عقوبات بحق ماهر الأسد، شقيق الرئيس بشار، وتحميله مسؤولية المواجهات الدموية التي حدثت. وفي آخر الكلام: ان مسيرة التغيير والانتفاضات والثورات ستتابع تجوالها في العالم العربي وربما ما بعد ذلك بكثير. ومن القرائن الواضحة أن الرد على مطالب المتظاهرين «من أهل البلد» وليس المرتزقة، لا يمكن أن يكون بالقمع باسم استعادة الهدوء والنظام. * كاتب وإعلامي لبناني