بعد يومين من الآن، الأحد في الأول من أيار (مايو) 2011 تُسدل الستارة على تجربة تلفزيونية نادرة بالنسبة إلي استمرت على مدى 15 عاماً متواصلة تحت مُسمى «خليك بالبيت» (على شاشة «المستقبل»)، البرنامج الذي استضاف حتى حلقاته الأخيرة قرابة سبعمئة مبدع عربي من المحيط إلى الخليج، حاصداً عشرات الجوائز والتنويهات ومستقطباً شرائح واسعة من المشاهدين باختلاف ميولهم وأهوائهم وأجيالهم، وذلك على خلفية تنوع ضيوفه وتعدد مشاربهم واتجاهاتهم وأفكارهم وجنسياتهم وأجناسهم. لأن مادح نفسه يقرئك السلام أترك لسواي تقويم هذه التجربة والحكم عليها بإيجابياتها وسلبياتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، حيث سيكون صعباً على أي ناقد موضوعي نزيه محوها من الذاكرة التلفزيونية العربية، خصوصاً ما يتصل منها بالمراحل الأولى لانطلاق البث الفضائي العربي مطلع التسعينات من القرن المنصرم. أكتفي الآن بالقول إنها لم تكن بالنسبة إليّ مجرد تجربة مهنية، بل جامعة حقيقية تخرجت منها بشهادات متعددة ودراسات عليا تتلمذت فيها على أساتذة كبار في مجالات كثيرة التنوع والاختلاف، وكيف أنسى أمثال سعيد عقل والطيب صالح وسعدالله ونوس ومحمد الفيتوري ومحمود درويش وسميح القاسم وأدونيس وشوقي أبي شقرا ومحمد حسين فضل الله وجورج خضر وغريغوار حدادّ ورفيق الحريري وحسن نصرالله وسليمان العيسى ولميعة عباس عمارة ويوسف شاهين ومنصور الرحباني ونور الهدى ونجاح سلام وصباح ولور دكاش وتحية كاريوكا وأحمد فؤاد نجم ومرسيل خليفة وآلييدا غيفارا وهدى جمال عبدالناصر وسميرة توفيق وفهد بلان وعادل إمام وفاتن حمامة ومحمد سعيد طيب ومحمد عبده يماني وتركي الحمد ومحمد عبده وخالد الفيصل وخالد الكركي وليلى خالد وبدر بن عبدالمحسن وعبدالرحمن بن مساعد وعبدالله الغذامي وسعيد السريحي وعبدالحسين عبدالرضا وسعاد العبدالله ودريد لحام ومنى واصف وسعد الدين بقدونس والمعلومة بنت الميداح وأحلام مستغانمي وكريمة صقلي وجليلة بكار والفاضل الجعايبي (ليت المجال يتسع لتعداد الجميع) والمئات من نظرائهم في الأدب والشعر والفكر والفقه والمسرح والسينما والموسيقى والغناء... فضلاً عن المناضلين والمقاومين والأسرى المحررين الذين علّموني ما لم أعلم وكنت أجلس قبالتهم كمن يقرأ موسوعة أو يرتشف قطرات ضوء. أترك للمستقبل رواية هذه التجربة الاستثنائية وما تخللها من أسرار وكواليس وكيف استطاع برنامج واحد أن يجمع اليساري واليميني، الراقصة والسياسي، المرجع الديني والمفكر العلماني، الأمير الحاكم والأسير المحكوم، النجم الترفيهي والفنان الملتزم. لكل أمر نهاية ولكل تجربة ستارة ختام، وإذ يختلط الفرح بالشجن في نفسي هذه اللحظات، الفرح لأن التجربة كانت، في رأيي، ناجحة واستمرت عقداً ونصف العقد من الزمن، والشجن لأن الأداء التلفزيوني العربي يشهد عودة غير مسبوقة إلى زمن الإعلام الأيديولوجي المتحجر والشمولي «الغوبلزي» الذي لا يتسع إلاّ للأحادية المفرطة والأجندات السياسية ومصالح الأنظمة المتناحرة وأهوائها، فيما يستمر تدهور الإعلام اللبناني المرئي وتراجع تأثيره عربياً - بعد أن كان يحتل مقاعد الريادة - بفعل غرقه في التسييس المحلي المبالَغ فيه وتشتته في أزقة وزواريب الصراعات الطائفية والمذهبية واستهتاره بكل شأن ثقافي، وتركيزه على الترفيه المجاني والمُبتذل في أغلب الأحيان - بعيداً من التعميم لأن الأمر لا يخلو من تجارب مضيئة وزملاء يعلموننا بأدائهم ووعيهم نبل هذه المهنة - وعجزه عن اللحاق بتطورات الصناعة التلفزيونية بفعل شح الموارد المالية والإعلانية والمنافسة المفترسة من «الهولدينغات» العربية الضخمة. فضلاً عن أسباب أخرى كثيرة يطول شرحها الآن، منها تراجع إعلام «البان آراب» لمصلحة الإعلام القطري والمحلي في الدول العربية كافة، ودخول الإعلام الاجتماعي («الفايسبوك» و «تويتر» و «يوتيوب») منافساً غير مسبوق.