تولة فاخرة من دهن العود كلما تذكرت رنين حنجرة هذه السعاد محمد التي بانت. تشكل مع رفيقاتها اللبنانيات المتمصرات فنياً نور الهدى (1924-1998)، زكية حمدان (1925-1987)،نازك (1928 -1983) ويمكن أن نضيف وداد (1932-2009) . توزعت فترة عملهن بين حربين الأولى هزيمة 1948 والثانية الحرب الأهلية اللبنانية 1974. إنهن رباعي المغنيات اللواتي مثلن صورة القرن التاسع عشر المنقحة حتى انقطعت بهن دنيا الطرب من بعد فترة الستينيات ودفنَّ فنياً منتصف السبعينيات. يمكن وصف هذا الجيل بأنه جيل النكبة والنكوص، بحيث لم توشك أن تبدأ كل واحدة منهن مسيرتها الفنية منتصف الأربعينيات حتى خيمت أصداء هزيمة 1948 على الوطن العربي بينما لم تهتز صورة أم كلثوم أو ليلى مراد أو أسمهان أو محمد عبدالوهاب، ولكن الجيل الثوري الذي انطلق ما بعد ثورة 1952 من المغنين العرب، مثل فيروز ووردة وعبد الحليم حافظ كان يمثل لحظة الانفصال النهائي من ملامح بقايا القرن التاسع عشر التي انسحبت حتى القرن العشرين حيث أفاد هذا الجيل وعبر عن زمنه في الحرب والسلم والرخاء واللاتوازن. غير أن هذا الجيل ليس في رباعي المغنيات فقط بل يمكن تذكر أسماء كثر ظلمت بشكل سيئ مثل ملحنين كبار سواء من مصر أو سوريا أو فلسطين : محمود الشريف وأحمد صدقي وعبد العظيم محمد ومحمد محسن وزكي محمد ورياض البندك. إذا كانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منحت أم كلثوم فرصة التعالي والاستقواء النهضوي الثقافي على جيل يسبقها مثل منيرة المهدية ونعيمة المصرية وماري جبران وفتحية أحمد بينما تخطينهن –بمن فيهن أم كلثوم نفسها- كل من أسمهان وليلى مراد ( وأوشكت أن تلحق بهما لور دكاش) حيث مثلتا صورة الليبرالية العربية الحالمة لكن جيلاً لاحقاً بعد هزيمة 1948 سينكفئ إلى التراث الكلاسيكي من الدور والموشح والقصيد ليمثل صور الردة التراثية كما حدث لفكر وأدب كل من طه حسين وعباس العقاد، وهذا ما فعلته كل من نور الهدى وسعاد محمد على الخصوص بوحي من لور دكاش التي تخصصت في ذلك قبلهما. ولعلني أشير بمزيد من الأسف – للتساهل النقدي العربي وأقربه مقالات التأبين- حيث ألقى بأكبر ظلم على صوت سعاد محمد حين التحدث عنه أو عن المسيرة السعادية باعتباره صوتاً " كلثومياً "، وأبرزها مقال التأبين من الناقد الكبير إلياس سحاب والكاتب القدير محمود الزيباوي - بينما الدلائل العلمية والوقائع الجمالية تستطيع بأبسط المعطيات تنحية الصوت السعادي بقدر تفرقته إلى الحالة الشامية الطافحة في زوايا قدرات الصوت من جهة ومن جهة النوع فهو يرتكز على الأنوثة ( بعنصريها المشعين الحنان والرقة) ما ينفي عنه أية شرعية فنية للمشروع الكلثومي الذي تنكشف فيه أولى ملامح الصوت اللاأنثوية ( وفقد عنصري الحنان والرقة)، منذ شبابه حيث اعتمد على صوت لا ذكوري ولا أنوثي في فترة ما بين مراهقته وشبابه الأول حتى دخل مرحلة اللاجنس التي قذفت به نحو الشيخوخة الذكورية بشكل مفاجئ، ويداني هذا الصوت نموذج عبد اللطيف البنا (1884-1950). وما دام الصوت يحفظ الحالة الشامية بالمنشأ ، والعائد إلى أمها، فهو ينسل مزاياها من أصوات السيدت الكبيرات المنسيات في ذاكرة الطرب العربي بين القرن التاسع عشر والعشرين ويمثلن ذلك : نادرة أمين (1906-1990)، ماري جبران (1907-1956) ، لور دكاش (1917-2005). تصنف أعمال سعاد محمد ضمن إطار المدرسة التقليدية الجديدة في منتصف اقرن العشرين الأول حيث إنها رغم انقراض قالب الدور والموشح أكملت المسيرة بالقصيدة والمونولوج والطقطوقة والمشاركة في العمل السينمائي والإذاعي والغناء على المسرح حيث يبقى الصوت سيد السلطنة.