رسم ادغار ديغا، عدداً كبيراً من اللوحات طوال مساره الفني، حيث كان واحداً من اوائل وأبرز الفنانين الانطباعيين. غير ان هذا الرسام المجتهد اهتم، بخاصة، بعدد قليل جداً من المواضيع، وتميّز عن رفاقه الآخرين، بأنه كان اقلهم اهتماماً برسم الطبيعة الخارجية، بوصفها موضوعاً. حتى حين كان يحدث له ان يتعامل مع طبيعة ما، كان لا يستخدمها اكثر من ديكور لمواضيع اخرى. وهذا يطرح بالطبع أسئلة جدية حول مدى انتمائه الى الانطباعية التي كانت شديدة الاهتمام بالطبيعة وبضوء الشمس والألوان الناتجة عنه. غير ان هذه الاسئلة ليست همّنا هنا، ولا همّنا ان نعرف ما اذا كان في الامكان اعتبار ديغا انطباعياً. قد نكتفي هنا بالقول انه كان «انطباعياً على حدة»، وربما خارج كل تصنيف، كما قد يجدر بكل فنان حقيقي ان يكون. وعلى اية حال فإن ديغا عرف في معظم لوحاته ذات المشاهد الداخلية كيف ينقل عناصر الطبيعة وألوانها. وربما ايضاً «فرض خطوطها وتشكيلاتها»، على ذلك الداخل الذي كان ميدان تحركه الرئيسي في عدد كبير من لوحاته. أما المواضيع الاساسية التي أثارت اهتمام ديغا وحركت ريشته وألوانه، فيمكن اختصارها في ثلاثة: عالم الاستعراض، وعالم سباقات الاحصنة، ومشاهد تدور داخل المقاهي والكاباريهات. وفي هذا المجال الاخير قد يكون من المهم دائماً ان نذكر التأثير الذي كان لديغا على تولوزلوتريك الذي يعتبر من ابرز راسمي عالم الكاباريه السفلي، عند نهاية القرن التاسع عشر. وعالم الاستعراض الذي كان يشكل اهتماماً رئيسياً لديغا، كان بالتحديد عالم الباليه، ذلك العالم الذي فتنه، ووجد في حركتيه بديلاً لحركية الطبيعة التي اثارت اهتمام رفاقه من الانطباعيين. ومن هنا خلّف ديغا العشرات من اللوحات، المتفاوتة الحجم والتعبير والاسلوب، التي تصوّر ذلك العالم الغريب. رسم حفلات الباليه وجمهورها، رسم الراقصات وهن يؤدين رقصهن، رسم التدريبات، ورسم اساتذة الباليه وهم يدربون الراقصات، ولا سيما من بين الاساتذة جان بيرو الذي كان في زمنه من ألمع مدربي الرقص. في اختصار بدا ديغا وكأنه امضى ردحاً من أيامه يعتصر ذلك العالم الراقص في فؤاده وذاكرته ونظراته، وراح يرسمه لوحة بعد لوحة متوخّيا في ذلك التتابع، الوصول الى اللوحة المثلى التي تشع بالموسيقى والحركة وأنفاس الراقصات ودهشة الجمهور، وقلق المدرب. والغريب في الامر ان معظم اللوحات التي رسمها ديغا لعالم الباليه اتت صغيرة الحجم، وكأن الرسام خاف على الفراشات الراقصة ان يضعن في الاحجام الكبيرة. ومع هذا على صغر حجم اللوحات، لا تبدو ايها مزدحمة او ضيقة عاجزة عن استيعاب وجود راقصاته وحركتهن. اما اللوحة، التي تنتمي الى هذا العالم الفاتن، والتي نحن في صددها هنا فانها تعتبر واحدة من اكبر تلك اللوحات مساحة على رغم ان عرضها لا يتجاوز ال85 سم وارتفاعها الخمسة والسبعين. عنوان اللوحة هو «درس الرقص» وموجودة الآن في متحف اورساي الباريسي. في هذه اللوحة التي بدأ ديغا يرسمها في العام 1873 لينجزها في العام التالي 1874، جمع الرسام نحو عشرين راقصة وام راقصة متحلقات من حول استاذ الرقص بيرو، وعصاه السحرية التي يقول مؤرخو الفن ان ديغا قد اضافها الى اللوحة لاحقاً اذ لاحظ ان ثمة نقصاً في التوازن وسط اللوحة، فأسند هنا التوازن الى هذه العصا. اما المكان الذي يدور فيه المشهد فهو واحدة من صالات التدريب في قاعة الاوبرا القديمة في شارع بيلتييه الباريسي، وهي قاعة عادت والتهمتها النيران لاحقاً ولم يعد لها وجود. من الواضح ان ديغا في هذه اللوحة، على رغم خلوها من العنصر الاساس الذي يشكل مناخ الاستعراض، اي الرقص نفسه، عرف كيف يخلق الاجواء الضرورية، ويحرك الالوان في تماثلها وتقاطعها لكي تعطي اللوحة والمشهد نفسه ديناميكية مدهشة. فإلى بعض الامهات المتحلقات ينظرن بلهفة الى ما قد يقوله الاستاذ من ملاحظات وتعليمات، وفي نظراتهن - غير الواضحة تماماً على اي حال، وانما يمكن افتراضها - شيء من التعزية لبناتهن، هناك الفتيات الراقصات انفسهن. ومن الواضح انهن انتهين لتوّهن من حصة التدريب، ويقفن منتظرات وسط قاعة تضيئها نافذة عريضة جداً لا نراها، لكننا نخمن وجودها من خلال بقع الضوء التي تلقيها على ارضية الصالة، ولكن بشكل اكثر وضوحاً من خلال انعكاسها على المرآة الشاغلة الجزء الاوسط من الجدار الاساسي (ونلاحظ هنا ان ديغا غالباً ما كان يرسم النافذة وضوءها الغامر، معكوسة في مرآة ما، في هذا النوع من اللوحات). من الجلي ان الراقصات منهكات، لكن الانهاك لا يمنعهن من الاهتمام الكلي بما يقوله الاستاذ... وخلال الاهتمام المطلق ثمة راقصات يحككن ظهورهن وأخريات يحركن اجسادهن لإراحة العضلات، فيما بعض الراقصات يقمن بتعديل اثوابهن، ما يعني ان التدريب سيستأنف على الفور وان ما نراه انما هو استراحة قصيرة بين فترتي تدريب... وكل هذا يشكل عادة موضوعاً اثيراً لدى ديغا، الذي من الواضح ان مسار الوصول الى النهاية يهمه اكثر من الوصول نفسه. وكذلك علينا ان نلاحظ هنا اهتمام ديغا بالعديد من التفاصيل الصغيرة، مثل الربطة الوردية التي عقصت بها شعرها من الخلف الراقصة التي تشغل مقدمة اللوحة وتعطينا ظهرها، ومثل الكلب، واناء الماء، على يمين ويسار قدمي هذه الراقصة نفسها... وما الى ذلك. من ناحية وجهة النظر، رسم ديغا لوحته من منظور مرتفع، سيكون هو المنظور المسيطر على معظم لوحات الرقص لديه، بل سيزيد ارتفاعاً لوحة بعد لوحة. وهذا المنظور وجد لدى ديغا بتأثير مباشر من الفن الياباني الذي كانت فرنسا، خصوصاً، وأوروبا عموماً، بدأت تكتشفه في ذلك الحين. أما تركيب اللوحة نفسه فإنه يشتغل في اتجاهات مختلفة وان كان من الواضح انه يتحرك ضمن محورين: محور أول يقطع اللوحة عرضياً عند منتصفها في خط مائل بعض الشيء، يقاطعه جسد الاستاذ نفسه، وكاد جسد راقصة المقدمة يقطعه ايضاً لولا ان خط خصرها يشكل امتداداً طبيعياً لذلك الخط، ومحور ثان يمتد في حركة مواربة من الزاوية السفلى اليمنى الى ما دون الزاوية العليا اليسرى، وتحدده بشكل اكثر وضوحاً خطوط الارضية. وهذه الخطوط الاخيرة اذ تملأ فراغاً كاملاً تشكله الارضية يبدو مألوفاً في لوحات ديغا. وكذلك التقابلات التي تتكرر ثلاث مرات هنا لتوجد توازن اللوحة ككل: التقابل بين الاستاذ والراقصة التي تواجهه واقفة وسط اللوحة، التقابل بين راقصة المقدمة التي نراها من الخلف، وتلك التي تقف خلف الاستاذ عند الطرف الايسر للوحة، وأخيراً التقابل بين الراقصة الجالسة على البيانو، وتلك التي نراها في عمق اللوحة عند زاوية الجدارين والتي تبدو هنا وكأنها انعكاس في المرآة للجالسة الى اليمين على البيانو. والحال ان هذا كله يبدو مرتبطاً بخصوصية فن ديغا، الذي جعل من عالم الباليه ميدان تحركه خلال مرحلة من حياته، وكذلك حال الالوان التي تبدو محدودة العدد، ولكنها في الوقت نفسه قادرة على إيجاد تنوّع يحيلنا هنا الى ألوان الطبيعة نفسها، مع التركيز على الابيض بشكل استثنائي. عاش ادغار ديغا بين 1834 و1917، وولد ومات في باريس. وهو تحدر من أسرة مثقفة وموسرة ما مكّنه من ان يعيش معظم عمره من فنه، وكذلك من ارتياد اماكن فاخرة رسمها في لوحاته. وهو كان منذ بداياته معجباً بأنغرز كما برسامي النهضة الايطالية. ودرس بين 1853 و1859 في مدرسة الفنون الجميلة وقام بعدة رحلات دراسية. وهواذ كان كلاسيكياً عند بدايته، راح يعثر على أساليبه الخاصة لاحقاً، حين اكتشف الفنون اليابانية، كما عرّفه اصدقاؤه على الفنون الرمزية. ومن هنا فإن فنه تلقى تأثيرات عدة ما يجعل من الصعب كما اشرنا ضمّه كلياً الى الانطباعيين على رغم انه عرض معهم مرات عديدة، هو الذي أبدى خلال مرحلة نضوجه اهتماماً بكل ما هو حديث وبعيداً من أي حس رومانطيقي ولو في الاحتكاك بالطبيعة. ولقد حقق ديغا خلال حياته اعمالاً كثيرة الى لوحاته الزيتية، في مجال الحفر والرسم بالقلم. وآخر حياته، اذ ضعف بصره راح يصنع تماثيل صغيرة من الشمع للأحصنة والراقصات والنساء العاريات. [email protected]