عبر ستة وخمسين مقطعاً، يتشكل متن ديوان الشاعر المصري إبراهيم البجلاتي «أنا في عزلته» (دار بدائل)، مسكوناً بالعزلة؛ وملتحفاً بها في مواجهة العالم في الآن نفسه. هنا؛ يطرح البجلاتي فضاءً شعرياً يخصه، معتمداً لغة محايدة، تنزع صوب الداخل الإنساني الثري، فتعيد الاعتبار لجماليات المفارقة، بدءاً من المزاوجة بين ضميري المتكلم والغائب في العنوان، لتكشف عن ذات متشظية، تبدو في حاجة إلى من يثمّن اختيارها العزلة، فلا تجد إلا وجهها الآخر/ الغائب، ومن ثم يأتي التصدير الدالّ للديوان متماساً مع عبارة إدغار ألن بو: «العزلة جميلة، لكن من الضروري أن تجد شخصاً آخر ليقول لك إن العزلة جميلة». عبر استهلال شعري يعتمد على آلية الإرجاء، يبدو فيه البوح وسيلة للخلاص، وتبدو لحظة الكتابة هي ذاتها لحظة الانعتاق: «قبل ثلاثين عاماً/ حاولتُ أن أكتب شيئاً عن الحزن/ مِن دون ذِكر الكلمة نفسها/ وفشلت/ لو نجحتُ في ذلك وقتها/ لما احتجتُ إلى تنظيف رئتي من الهواء الآن» (ص7). ويتواتر حضور العلامة (الثلاثين سنة)، في مقاطع أخرى داخل الديوان، بحيث يصبح البوح لازماً، ونصبح أمام جملة من المشاهدات المدهشة، لذاتٍ تقف على الحافة: «بل حدث بالفعل ومنذ ثلاثين سنة بالكمال؛ أحب: جرس الإنذار بأجهزة التنفس الاصطناعي/ رشاقة المعدن/ لهفة الأصابع في الدماء/ الذاهبين إلى الألم/ العائدين إلى الحياة» (ص10). وتحضر السنون الثلاثون الفائتة أيضاً حين تشير إلى الوقت الذي قضته سلحفاة صغيرة؛ كانت «تجوب الصالة – بالحماسة نفسها- منذ ثلاثين سنة»، فيرصد الشاعر حركتها الدائبة- البطيئة عبر عيني ذات مغتربة عن واقعها، تعاني انفصالاً عن البنية الاجتماعية المحيطة. فكل شيء تغيّر، ولم يبق سوى الفقد وقليل من الذكرى الباهتة: «بعد زيارته الأخيرة لبيت العائلة/ لم يقل– صراحة– إنه صار غريباً/ ولم يذكر مجازاً شهيراً عن الكلاب التي لم تعرف رائحته/ لأنه لم ير كلباً واحداً يختبر معه صحة المجاز/ ما قاله فعلاً/ إنه لم يسمع وقع خطواته في الصالة الطويلة/ وإنهم أضافوا إلى غرفته القديمة ثلاجة معطّلة/ وقال أيضاً إن ترابيزة السفر – التي ذاكر عليها دروسه أيام التلمذة- / فقدت واحداً مِن أرجلها الأربع/ فسندوها مائلة على واحدة من كراسيها» (ص40). تتسع مساحات المجاز داخل النص، لكنه المجاز الذي يحققه الأسلوب المتجه صوب المعنى، ومن ثم فهو يفتح طاقة التخييل الشعري من جهة، ويغاير في جوهره فكرة الصخب البلاغي المعتمد على آليات الزخرف اللفظي بتنويعاته القديمة. هنا كل شيء قابل للتأويل ببساطة آسرة، وبلغة شعرية تشف وتقول في آن، وتقدم صوراً مركبة، من قبيل: «أشياء كثيرة تحدث/ لا يريد أن يفكر فيها/ قبل أن يدهن حائطاً عظيماً بأخضر غامق/ ويدق فيه مسامير ثقيلة/ تكفي لتعليق مدينة من أقدامها المتسخة/ ومكتبة بحجم بحيرة راكدة/ وآلافاً من صور غابرة/ ثم يشعل النار في كل هذا/ بعدها يسند ظهره إلى حائط مقابل/ يبكي من أثر الدخان/ أو يضحك مثل مجنون حتى تدمع عيناه». تبرز في الديوان تقنية المفاجأة الأسلوبية، مثلما نرى في المقطع التالي: «أحب عصير البرتقال في الشرفة/ ليس هذا أوان البرتقال/ وليست لديّ شرفة/ لديّ الكثير من الشاي والكسل/ وأمل ضعيف بأن تحبني امرأة كما أنا». يكسر الشاعر أفق التوقع لدى المتلقي، ويتعدد المعنى، ويعتمد الأسلوب الشعري هنا على جملة الطاقات الإيحائية والشعورية التي يخلّفها النص في سيكولوجية متلقيه، ومن ثم يبدو أشبه بقوة ضاغطة على حساسية القارئ؛ في استعادة للمفهوم المركزي للأسلوب عند ميشال ريفاتير. ومن ثم؛ يكون الأثر النفسي لديوان «أنا في عزلته» نافذاً إلى الروح، مفسحاً في الوقت ذاته إمكاناً لتأملٍ مستمر للعالم والأشياء. تحمل العزلة ظلالاً قاسية، حين تتحوّل إلى وحدة كئيبة، وتصير في النص استجابة جمالية للهُوَ الفرويدي المقموع، والذي يمثل مخزن اللاوعي في مقابل الأنا (الإيغو) الواعي: «أريد أن أكون شريراً لبعض الوقت/ لكنه لا يريد أن يكتب ما أفكر فيه/ يريد فقط أن يملي عليّ أفكاره البائسة/ وكلما اختلفنا/ يقول لي بنبرة هادئة/ تخيّل/ نحن في الحفرة نفسها/ وبيننا مئة بحر»( ص 77). ينفتح النص على لعبة الاحتمالات، والتي يقننها الشاعر منحازاً إلى أكثر الصور إيلاماً: «الصور التي تتركها الوسادة في خده تصنع نسخاً كثيرة منه/ أقربها إلى قلبه/ نسخة الشريد الذي أسرف في سرقة التوت وإشعال الحرائق/ وتركت النار علامة في صدغه» (ص24). تتواتر صورة شعرية بديعة داخل الديوان، بصيغ جمالية مختلفة، وإن ظلّ بناءُ الصورة معتمداً على بنية مركبة تحوي داخلها جدلاً خلاقاً بين آليات المشهدية البصرية، والصورة البيانية، والصورة السردية؛ «فتحةُ التكييف مغلقةٌ على الفراغ بلوحين من الخشب/ لعبت الريحُ باللون الخارجي، فدخل بينهما غراب- بنى عشا، واستقر في الليل- وكلما علا صوتُ التلفاز أو اندلع ما يشبه العواء من المنور- ينقر اللوح الداخلي، راجياً بعضَ الهدوء. بعد ليال من النقر على الخشب/ اكتشف لمنقاره وظيفةً أخرى. قطعَ السلكَ الذي يمر عبر عشه بين السطوح والتلفاز. صارت الشاشةُ سوداءَ إلا مِن عبارتين: جار البحث عن الإشارة. لا توجد إشارة. وعلى رغم ذلك لم ينقطع النقر على الخشب/ لم ينقطع العواء» (ص32). ثمة ظلال للأب في بعض المواضع داخل الديوان، تبدو مقترنة بالوحدة والشتاء، والفقد، وكأنها تنويعات على المدلول السلبي للعزلة، وهناك ظلالٌ أخرى حانية للأم، وكأن استرجاعهما يواجه الوحدة ويبدد غربة الذات الشاعرة، التي تبدو الكتابة لها خروجاً مِن المأزق الوجودي، ومجابهة لثقل العالم وقسوته. في ديوانه «أنا في عزلته»؛ يستجلي إبراهيم البجلاتي مفهوم العزلة جمالياً، فتبدو هنا متماسة مع ما طرحه نيتشه حين رآها ضرورية لاتساع الذات وامتلائها. هنا تقارب الذاتُ الشاعرةُ بين الوحدة والغربة، العزلة والبرَاح، محتفظةً ببعض البهجات العابرة، والخيبات اللانهائية في نص جدارته في رهافته، وبساطته الآسرة.