كثيرات من جدّاتنا وأمهاتنا تزوّجن قبل عقود في عمر صغير، فكان زواج الفتاة في عمر ال16 أو ال17 وأحياناً أقل من ذلك، أمراً طبيعياً من الناحية الاجتماعية والقانونية، وينسحب هذا الكلام على المجتمعات المدنية والريفية على السواء. وعلى رغم أن معدل عمر الزواج للرجال يبدو أعلى من مثيله لدى النساء إلا أنهم معنيون– وإن بدرجة أقل- بموضوع الزواج المبكر، الذي تحول اليوم لدى كثيرين مكروهاً اجتماعياً ومحل مناهضة من جمعيات ومنظمات نسائية وحقوقية كثيرة، لما فيه من انتهاك لحقوق الطفل وآثار سلبية في صحته النفسية والجسدية، ومفاعيل سلبية تطال المجتمع. بعكس الرجل، كانت الشابة التي قاربت عقدها الثالث أو تجازوته بقليل تدعى «عانساً»، إذ يعتبر جزء من محيطها الاجتماعي أن «قطار الزواج» فاتها. أما اليوم فقد بات مألوفاً أن تكون نساء كثيرات قد تجاوزن الثلاثين من عمرهن دون زواج، بخاصة في المدن، حيث يبدو أن تغير نمط الحياة ونمو النزعة الاستقلالية وازدياد انخراط المرأة في سوق العمل كماً ونوعاً، قد ساهم بقوة في رفع معدل عمر الزواج لدى النساء، الأمر الذي ساهم تلقائياً في رفع معدل عمر الرجال، ليرتفع صوت هيئات اجتماعية ودينية تحذر من هذا الارتفاع وانعكاساته على الأسرة والمجتمع. جينيفر صليبا (28 سنة) تعتبر نفسها معنية بالنضال من أجل رفع العمر الأدنى للزواج في لبنان إلى سن 18 ولكلا الجنسين، وإن كانت تعتقد أن الفتيات هن الضحية الأكبر في هذه «المأساة». وترد صليبا أصل المشكلة إلى الطائفية التي سمحت بأن تكون للطوائف الدينية في لبنان كلمة الفصل في الأحوال الشخصية، فتستقل كل طائفة بقانون أحوال شخصية ومحاكم شرعية أو روحية خاصة بها، و «تبقى الدولة المؤتمنة على حماية مواطنيها في موقع المتفرج على رغم أن قوانين الأحوال الشخصية بكل الطوائف تتضمن مخالفات صريحة لحقوق الطفل»، ومعاهدات دولية كثيرة وقع عليها لبنان. وتحدد قوانين الأحوال الشخصية المتعددة في لبنان السن الأدنى للزواج عند الفتاة بين 9 سنوات إلى 18 سنة: فعند الطائفة الشيعية العمر هو 9 سنوات، وعند الكاثوليك (بمن فيهم الموارنة) 14 سنة، أما الطائفة السنية 17 سنة مع إمكان القبول بعمر 9 سنوات استثنائياً، والدروز 17 سنة كقاعدة، بينما الاستثناء هو 15 و18 سنة لدى الروم الأرثوذكس الذين يقبلون في سن ال15 كاستثناء. وحال الفتيان في هذه القوانين ليس أفضل بكثير، فهذه القوانين تسمح أيضاً لهم بالزواج دون سن البلوغ القانوني. غالبية الطوائف في لبنان تسمح من خلال قوانين أحوالها الشخصية المستقلة بزواج الأطفال، في مخالفة شديدة الصراحة لاتفاقية حقوق الطفل والمعاهدات الدولية التي تعتبر «طفلاً» كل من لم يتجاوز سن المسؤولية القانونية عند ال18 عاماً. وترى صليبا المفارقة في أن تمنع الدولة اللبنانية من لم يبلغ سن 18 من قيادة السيارات، وأن ترى أنه غير مؤهل لممارسة حقه في الانتخاب حتى بلوغه سن ال21، بينما تسمح بزواج طفلة تبلغ 10 سنوات من طفل يبلغ 15 سنة ليسكنا معاً وينجبا البنين والبنات ويقومان بتربيتهم. وتقول: خلاصة رسالة الدولة للمواطنين هي «أنت أقل نضجاً من أن تنتخب وتقود سيارة، لكنك كبير كفاية لتؤسس عائلة وتربي أطفالاً!». ولا شك في أن حالات الزواج المبكر، أو زواج الأطفال قد تراجعت بشكل ملحوظ في لبنان خلال العقود الأخيرة لأسباب متعلقة بتطور اجتماعي وثقافي، لكن بقاء التشريعات الطائفية على حالها دون تدخل من الدولة المؤتمنة على مواطنيها يشكل جريمة بحق الطفولة ولو كان الواقع يورد حالة واحدة فقط لزواج الأطفال، حيث لا يجدي الاختباء وراء القول بأن التشريعات هي مجرد حبر على ورق بينما التطبيق مختلف. وتقاوم الجمعيات الاهلية المعنية بهذا الشأن خطاباً دينياً واجتماعياً آخذاً في الانتشار ما يصعب عليها المهمة أكثر، حيث لا يكتفي رجال الدين أحياناً بانتقاد سعي منظمات المجتمع المدني للحد من الظاهرة، وإنما يحرضون بدورهم على هذا الزواج ويحاربون من يهاجمه. فعلى سبيل المثال، دعا أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله في خطاب له في 18 آذار (مارس) 2017 إلى ترويج ثقافة الزواج المبكر، متهماً من يحارب هذا الزواج بتخريب المجتمع وخدمة الشيطان. قد يمكن فهم هذا الموقف على خلفية أن صاحب الخطاب هو رجل دين قبل أن يكون رجل سياسة، لكن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فبالتعريف القانوني والحقوقي، ما سُمّي «زواجاً مبكراً» هو زواج أطفال، وهو تمسك بقانون الأحوال الشخصية من قبل المؤسسة الدينية على حساب مؤسسات الدولة المدنية. طلال زيدان (24 سنة) مهندس معماري يعمل في إدارة المشاريع، يرى أن الزواج المبكر والعزوف عن الزواج أو التأخر فيه أمران موجودان في لبنان، ولكنه يخشى من التعميم في الحديث عن هذا الأمر، ويظن أن نسبة حالات الزواج المبكر قليلة ولا تشكل حالة عامة على عكس العزوف عن الزواج. يرد زيدان أسباب هذين النوعين من الزواج إلى أسباب اجتماعية- اقتصادية، لكن بطريقة مختلفة لكل حالة منهما، ويشرح أن استقلالية الفرد التي تتعزز يوماً بعد يوم، والانفتاح في العلاقات أديا إضافة إلى تزايد الأعباء المالية للزواج إلى تأخر السن والعزوف عنه، ويفضل شخصياً ألا يكون الزواج قبل سن ال27. وبالنسبة للعمر الأدنى للزواج في قوانين الأحوال الشخصية اللبنانية، يعرف زيدان أن هناك خصوصية للمجتمعات لكن هناك مشتركات عامة يجب أن تكون محل إجماع، وهنا يجد تقصيراً من قبل الدولة التي لا تفرض معايير محددة كثوابت على قوانين الأحوال الشخصية بخاصة في موضوع عمر الزواج والقوانين المختصة بحضانة الأطفال. لطالما كان هناك صراع ما بين مفهوم الدولة وحقوق ومكتسبات الطوائف في لبنان، ولا تخرج قضية الزواج المبكر عن هذا الصراع الذي تتعدد أشكاله ودرجات سخونته، يبقى المؤسف أن جزءاً أساسياً من موضوع هذا الصراع هم أطفال قاصرون ما زالوا ضحية فهم ضيق للدين وتشريعات قاصرة وتقاليد بالية، وعجزهم في المقابل عن تحديد رغباتهم واتخاذ قرارت مصيرية كهذه بأنفسهم.