أنا على يقين لا يداخله الشك.. وشك يتريث عنده اليقين أنها عندما قررت أن تغادر مثل كل الأمهات، أن تغادر بعد أن احتفلت بها الحياة ومنحتها مفاتيح المنزل، أسرار الرائحة، خبايا البنات وسراب حقائقهن التي تتكرر.. نزق الأولاد الذي لا يلوي على شيء لكنه يمنح الحياة لوناً مربكاً وصوتاً يناقض الإيقاع.. يصدمه، قل يعيد ترتيبه.. أو هو يربكه ثم يفطن الإيقاع أنه بعد هذا العمر الذي يحاور، يفطن أخيراً أن لكل زمن إيقاعه، ومن ذا الذي يعز لا يتغير، قالها الشاعر في لحظة حزن، وفراق، قالها الشاعر في لحظة إنسانية عاشقة، لكنها كانت لحظة شعرية تنبئ، تبشر، بالتغيير، بالجديد تلك لحظات تصل إلى معنى الحياة الحقيقي. ها هي على فراش الحياة القادمة تكاد تنهض، أو بالفعل نهضت، اعتمرت عباءتها السوداء.. تخبئ هذا البياض لم يعد هناك جسد محسوس كانت الملامح تغيب شيئاً فشيئاً، ربما تريثت أصابعها لتمنح أعينهم تلويحة الوداع، شيئاً فشيئاً، تخطف الأصابع عباءتها السوداء وطرحة من صنع بغداد حيث كان النسيج يحمل الغناء والحزن والفرح والانكسار، ها هي تغادر.. والصمت يمطر على الوجوه، والدمع يخرج من القلب، وتنهيدة توازن إيقاع حزن صادم وحياة تستمر، حياة تأخذ في النسيان حقاً يمنحها الحزن الشديد، ها هم يغادرون جميعاً، خبايا البنات التي تحولت إلى حقائق ناصعة، نزق الأولاد الذي يزرعه الأحفاد دهشة واستغراباً، ها هي تتركه وحيداً، يرقب حفيف ملابسها، رائحتها التي تسبقها إليه لتبث الطمأنينة في خاطره ذلك الصوت الخفيض، يمنحه المسافة والدفء.. وقليلاً من خبال محسوب، تتركه وحيداً صامتاً يرقب حتى مع يقينه أنها سوف تفاجئه تربكه، ربما غابت قليلاً وسوف تعود أدراجها لتقول له: «ناقصك شيء؟!»، هي الآن تزوره كل ليلة رائحتها لن تغادر البيت صوت إبريق الشاي صباح كل يوم مترعاً بالنعناع الأخضر.. يغادر الشاي.. تغادر كل الأشياء، ويبقى وحيداً. سيدتي: لا أعرف أمامك الرثاء أعتقد أن نسياناً أرجأته إلى نهاية الأمر، آثر أن يحاصرني، يحاصر كلماتي وقدرتي على البكاء، أو لا أدري ربما على الضحك، ربما على الارتياب، في معنى أن نفرح ونحزن.. ونحب ونكره.. ونغضب ثم نصالح، كيف تتغير ملامحنا مع مرور العمر، هل نكرر أخطاء ما تعلمناه أن نصل إلى مرحلة الدهشة الأخيرة والتي تكشف اللعبة، لنجد يداً رقيقة حانية تمد أصابعها وتفتح باباً للموت، باباً للحياة، باباً لأبواب عديدة نتجاوزها في الحياة تتجاوزنا في الممات، تعلم الأحياء سر الحياة الذي ينتهي بالصمت. * قاص سعودي.