بعد عشرين عاماً من الغياب عن العرض والذاكرة النقدية، ها هو من جديد يعود أندريه ديران إلى مساحة الضوء التحليلي العميق، مع «العقد المركزي» في سيرته المهنية أي العهد الذي كان فيه لا يزال شاباً (قبل الخامسة والعشرين من عمره) وذلك بعرض سبعين فقط من لوحاته التي تضجّ بالصخب اللوني والريادة والمنجزة بين 1904 و1914. يعتبر المعرض في متحف الأورانجوري الفرنسي(بتحليله العمودي المعمّق) نوعاً من إعادة الاعتبار لفنان المدرسة الوحشية أندريه ديران، هو الذي درجنا على اعتباره في الدرجة الثانية من الأهمية بعد هنري ماتيس (الذي تقاسم شهرة ريادة حداثة القرن العشرين مع بابلو بيكاسو) بمعنى أن دور ديران ظل مشوشاً ملتبساً بعكس معرضه الراهن في متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو، يعتبره رائداً رؤيوياً على مستوى احتدام التعبير من خلال العلاقات اللونية الحادة، وبأنه أول من استخدم ثقافة «النيكاتيف» اللوني، لأنه كان مصوراً فوتوغرافيّاً محترفاً، لذلك يعتبر في تفاصيله أشد واقعية من ماتيس، يؤكد المعرض أن تأثيره وصل الى إنكلترا وألمانيا (التعبيرية الوحشية مثل نولد وكريشنر). ابتدأ منهج العرض بإزالة التشويش الأسلوبي والتنوع الذي أفقده وحدته، متنقلاً ما بين الانطباعية والتجريد، وذلك بتخصيص العرض بسبعين لوحة بارزة تمثل ما يدعى بمرحلة العقد المركزي ما بين 1904 و1914 كما ذكرت، هو ما يكشف موهبته الرؤيوية المبكرة في الألوان على رغم صغر سنه ذلك أنه يصغر ماتيس بعشر سنوات فديران مولود عام 1880 وماتيس عام 1870، لكنهما توفيا في عام 1954. لعله من الجدير بالذكر أنه مولود في فردوس ضيعة شاتو القريبة من باريس، والمعروفة بمناظرها الطبيعية الخلابة، كانت منذ 1904 مختبراً تجريبياً في تحوله من الانطباعية إلى الوحشية، عرفت بمدرسة شاتو، من أبرز أسمائها إلى جانب ديران الفنان فلامنك، المعروف بتسارع سلوك فرشاته ومخاطراته الصباغية. ثم بعد عام وبالذات عام 1905، يجتمع مع توأمه هنري ماتيس ويقرران المشاركة في عرض صالون الخريف، إلى جانب فلامنك وبراك. تجمّع هؤلاء في زاوية واحدة ويجمعهم الخروج من تقاليد الانطباعية لونياً والتأثر بتنقيطية بول سينياك وسورا تحولت النقاط اللونية لدى الثنائي ماتيس وديران إلى مساحات لونية صريحة، بتأثير واستلهام مشترك من تصاميم النسيج في الفنون الأفريقية والإسلامية وفنون جزر المحيط الهادي وبقية التراث اللاغربي مثل الأقمشة الإندونيسية، هو ما يفسر معالجة التوأمين المذكورين للموضوعات بخاصة الرقص وذلك خلال المعرض الأول ثم الثاني 1906، ولحقت بهم بقية المجموعة مثل دوفي ودونجين. تحلقت لوحات المجموعة في صالون خريف 1905 حول تمثال رامي السهم للنحات الكبير بورديل (معلم رودان) والذي يقع أسلوبه المتميز بين الرومانسية والباروك. فعلق الناقد لويس فوكسيل متهكماً في الصحافة حينذاك بعنوان عريض: «بورديل في قفص الوحوش». كأنه معاق لونياً لأن تهمته أصابت أشد الفنانين رهافة في حساسيتهم اللونية، فما كان من هنري ماتيس بتوازنه وقوة شخصيته إلا أن امتصّ هذا المصطلح النقدي واعتبره عنواناً لمجموعته «الوحشيون». ترسخ هذا المصطلح في ألمانيا ابتداءً من عام 1911 إشارة إلى التحول في التعبيرية باتجاه الألوان الصارخة. ما بين عامي 1906 و1907، اقترح التاجر أمبرواز فولار الذي كان يسوّق لوحات ديران أن يصوّر مناظر لندن المائية لأنها تناسب طريقته الحادة اللون وهكذا كان، عرضت تحت عنوان مجموعة لندن الخاصة بنهر التيمز وجسوره العملاقة وروب البحر الذي يذكر بلوحة مونية «انطباع انعكاس الشمس» كأول إشارة إلى الأصول الانطباعية. وكان ديران قبل ذلك استقر بجانب مرسيليا (إستاك)، منجزاً العديد من لوحاته المستلهمة من الرقص الكمبودي، ثم تعرف الى بيكاسو وأبوللينير الذي دعم تصويره بسلطته الأدبية. يسافر بعد ذلك إلى التصوير الإيطالي الميتافيزيقي (شيريكو وموراندي) بين عامي 1912 و1913 قبل أن يكتشف خصائص بول غوغان اللونية والتأليفيّة في التكوين، فكان تأثيره عميقاً في مختبره التجريبي. يستحضر المعرض حواراته المثيرة مع بيكاسو، حول أهمية لوحات سابحي بول سيزان في صالون الخريف المذكور. لذلك حاولت مفوضة المعرض الكوميسير السيدة سيسيل دوبري محافظة متحف الأورانجوري أن تدرس التواصل الأسلوبي بين بيكاسو وديران. يستمر المعرض حتى مطلع 2018 بعنوان: تحية إلى ديران (من 1904 وحتى 1914).