وجَّهَ الحشدُ الأكبر في ميدان التحرير منذ تنحي الرئيس المصري السابق حسني مبارك أمس، رسائلَ عدة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد والحكومة الانتقالية، أبرزها التشديد على أن الثورة لن تهدأ إلا بتنفيذ كلِّ مطالبها بسرعة وليس بخطوات بطيئة، وبدا أن الكأس الذي تجرَّعه النظام السابق بسبب تلكّئه وأدى إلى ارتفاع سقف المطالب إلى المطالبة بإسقاطه، قد يشرب منها أيضاً آخرون. وعرضت قوى المعارضة أمس قوتها، وأثبتت استمرار قدرتها على التعبئة والحشد، كما سعت إلى تأكيد أن غالبية المصريين تقف خلف مطالب الثوار. وفي الوقت نفسه، وجَّهَ احتشادُ أكثر من مليون شخص في ميدان التحرير ومئات الآلاف في عدد من الميادين الرئيسية في المحافظات، ضمن «جمعة المحاكمة والتطهير»، رسالةً مفادها أن الخلافات التي ظهرت بين غالبية القوى السياسية وجماعه «الإخوان المسلمين» بسبب الموقف من التعديلات الدستورية التي أُقرت في استفتاء شعبي أجري مطلع الشهر الماضي، لن تشق الصف، بل على العكس، ظهر أن الضغط لتنفيذ مطالب الثورة كافة قاسم مشترك بين الكل. وهدد متظاهرون بأنه في حال لم يُعتقل الرئيس السابق وأفراد عائلته ويقدَّموا إلى محاكمة علنية، فإن الثوار يمكنهم الذهاب إلى منتجع شرم الشيخ حيث يقيم وتوقيفه. وجرت «محاكمة شعبية» رمزية لمبارك وأفراد عائلته ورجاله ترأسها القاضي محمود الخضيري، الذي يعد أحد رموز تيار استقلال القضاء الذي واجه النظام السابق. ووُضع بجوار المنصة الرمزية قفصٌ في داخله صور لمبارك وزوجته سوزان ونجله جمال ورئيس مجلس الشعب فتحي سرور ورئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف. وكان مئات الألوف تدفقوا إلى ميدان التحرير، قلب الانتفاضة الشعبية التي أسقطت مبارك، منذ الساعات الأولى لصباح أمس، استجابة لنداء وجَّهته جماعاتٌ شبابية وقوى وتيارات سياسة مختلفة لحشد الدعم للمَطالب بسرعةِ محاكمةِ مسؤولي النظام. وظهر الميدان ممتلئاً عن آخره عقب صلاة الجمعة، ما تكرر في ميادين رئيسة في الإسكندرية والسويس والإسماعيلية والمنيا ومحافظات أخرى. وأكدت التظاهرات التضامنَ مع الثورات التي تجتاح أقطاراً عربية عدة، ورفع المتظاهرون فيها أعلاماً كبيرة لسورية وليبيا واليمن وتونس مع الأعلام المصرية، وأعلنوا تنظيم قوافل إغاثة تتجه إلى قطاع غزة خلال أيام، بعدما أحرقوا أعلاماً إسرائيلية، منددين بجرائم قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. وتظاهرَ بضع مئات أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، لرفض الهجمات على غزة والمطالبة بوقف تصدير الغاز المصري إلى الدولة العبرية. وأُغلقت الشوراع المؤدِّية إلى ميدان التحرير، الذي لم يشهد وجوداً بارزاً للجيش، سوى تحليق مروحيات في سمائه، فيما رُصد وجودُ بعض عناصر الشرطة في الشوارع المحيطة، لكن من دون أن يقتربوا من مركز التظاهرات. وظهرت مجدداً أمس «اللجان الشعبية» التي تشكلت قبل إطاحة مبارك لحماية الأحياء بعد انسحاب الشرطة، فاصطف عشرات الشبان والفتيات الذين علَّقوا على أكتافهم شارات كُتب عليها: «شباب الثورة»، لتفتيش الراغبين في الاشتراك في التظاهرات والاطلاع على أوراقهم الثبوتية بهدف منعِ أيِّ مندسّين. وردَّد المحتشدون في الميدان هتافات، بينها: «على شرم (الشيخ) رايحين، شهداء بالملايين». ورفعوا لافتات كتب عليها: «الشعب يريد محاكمة الفساد» و «الشعب يريد تطهير البلاد»، كما هدَّد المتظاهرون بمحاصرة مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون في حال عدم إقالة باقي المسؤولين الفاسدين فيه وتعيين قيادات جديدة. واشتعلت حماسة المتظاهرين عقب هتاف ناشطين: «يا أم الشهيد ما تفرطيش في دم ولادك»، و «القصاص القصاص، دول ضربونا بالرصاص»، و «دم الشهدا مش للبيع، مش هنسلم مش هنبيع»، و «الإعدام للحكام». ورفع المشاركون لافتات كُتب عليها: «خلص الكلام يا عم الشيخ، هنروح له شرم الشيخ»، و «يا مشير يا مشير، إحنا قاعدين في التحرير»، في إشارة إلى رئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي. واستنكر عضو «ائتلاف شباب الثورة» الداعية الإسلامي الدكتور صفوت حجازي، تأخُّرَ محاكمة مبارك وأفراد عائلته ورموز نظامه «الفاسد»، كما حمّله مسؤولية إراقة دماء مئات المتظاهرين. وهدّد في خطبة الجمعة التي ألقاها في الميدان، بتوجّه المحتجّين إلى مقر إقامة مبارك «للقصاص منه في حال تباطؤ المجلس العسكري والنائب العام في محاكمته ونظامه الفاسد». وطالب بإقالة النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود وجميع رؤساء البنوك المملوكة للدولة الذين اتهمهم ب «إهدار أموال الشعب المصري على طبق من ذهب لرجال أعمال فاسدين، في صورة قروض نهبوها وهربوا بها إلى خارج البلاد». وطالب متظاهرون ب «إنشاء مجلس رئاسي يضم شخصيات مدنية وعسكرية لإدارة أمور البلاد خلال الفترة الانتقالية»، كما دعوا إلى حلّ المجالس المحلية وإقالة جميع المحافظين والإفراج عن المعتقلين. وحضَّ حجازي المصريين على عدم الانقسام. ودعا إلى كشف رجال النظام السابق الذين ارتدوا أقنعة الثورة. وقال إن «من يريد تقسيم المصريين في ميدان التحرير يخون الميدان ويخون الثورة»، مشدداً على «سلمية الثورة الشعبية، والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين». وطالب ب «دستور جديد يرضى به المصريون، وبرلمان منتخَب عبر صندوق نزيه، ورئيس منتخب من غالبية الشعب». واعتبر أن «الثورة ستنجح إذا كان لدينا رئيس سابق بحكم الدستور الذي يمنعه من الترشح، وليس رئيساً سابقاً لأن الشعب خلعه». ودعا رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف إلى «إقالة جميع رؤساء الجامعات الذين تدخَّل جهاز أمن الدولة السابق في تعيينهم»، منبِّهاً إلى أن «الجهاز مازال يعبث بالأمن الداخلي لمصر ويحاول شن الثورة المضادة». من جهة أخرى، هاجم عضو «مجلس أمناء الثورة» الدكتور عبدالخالق فاروق، الجرائمَ الإسرائيلية في حق الفلسطينيين العزل، معتبراً أن مليونية أمس في ميدان التحرير هي «أقوى رسالة للرد على الغارات الإسرائيلية على غزة ومحاولات التدخل في السيادة المصرية»، في إشارة إلى سقوط قذيفتين إسرائيليتين على الجانب المصري من الحدود مع القطاع أول من أمس. وانتقد رئيس «نادي قضاة مصر» السابق المستشار زكريا عبدالعزيز «ترْكَ المتهمين بقتل المتظاهرين مطلَقِي السراح، يباشرون أعمالهم وكأنهم لم يقوموا بجرائم واضحة ضد أبرياء تدخل في نطاق الملاحقة القانونية»، مؤكداً «أهمية محاكمة قيادات جهاز أمن الدولة». وأكد المنسق العام ل «الجمعية الوطنية للتغيير» الدكتور عبدالجليل مصطفى، أن «الشعب المصري بأكمله سيتابع لحظةً بلحظة وجمعةً بجمعة، تحقيقَ مطالبه كاملةً من دون تهاون»، موضحاً أن «وحدة الشعب المصري والاستقرار الذي ينشده الجميع، لن ننالهما إلا بالتطهير الكامل لجذور الفساد». وفي الإسكندرية، انطلقت مسيرة حاشدة ضمت أكثر من 100 ألف متظاهر من أمام مسجد القائد إبراهيم في محطة الرمل (وسط المدينة) اتجهت إلى مقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية في منطقة سيدي جابر. واستنكر المتظاهرون تباطؤ المجلس العسكري في محاكمة الرئيس المخلوع، وهتفوا: «جيشنا جيشنا اسم الله عليه، حسني في الشرم بيعمل ايه؟». في غضون ذلك، تشهد اليوم محكمة القاهرةالجديدة في ضاحية التجمع الخامس (شمال شرقي القاهرة) محاكمة عدد من الوزراء السابقين ورجال الأعمال في اتهامات ب «الفساد وإهدار المال العام». ويحاكم في القضية الأولى وزير التجارة والصناعة السابق رشيد محمد رشيد، ورئيس هيئة التنمية الصناعية عمرو عسل، وأمين تنظيم الحزب الوطني الحاكم سابقاً رجل الاعمال أحمد عز، لاتهام الأول والثاني بمنح تراخيص بالمجان للمتهم الثالث لإقامة مصنعين للحديد في المنطقة الحرة بالسويس، ما أضاع على الدولة مبلغ 660 مليون جنيه. وتبدأ المحكمة أولى جلساتِ محاكمةِ وزير السياحة السابق زهير جرانة واثنين من رجال الأعمال، هما هشام الحاذق وحسين سجواني (فرّا إلى خارج البلاد)، بتهم «التربُّح والاستيلاء على المال العام».