تتوالى الخسارات الكردية الواحدة تلو الأخرى بعيد استفتاء الاستقلال الذي جرى في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي. وعلى نحو خاطف انحسرت سيطرة حكومة كردستان إلى ما يقارب 50 في المئة من المساحة التي كانت تسيطر عليها قبيل الاستفتاء. أما وهج المشاعر القومية التي سيّدها الاستفتاء وكرنفالاته في إقليم كردستان العراق وخارجه فقد انقلب خلال ليلة واحدة إلى شعور بالنكسة ومرارة وغضب وخوف من المجهول عند كرد الإقليم وخارجه. جرى الاستفتاء في ظل رفض دولي حاسم من جانب الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والأمم المتحدة (لدرجة عدم إرسال وفد تقني لمراقبة سير عملية التصويت) ورفض رسمي من قبل مجلس الأمن الدولي بإجماع الأعضاء وعداء مطلق من قبل بغداد وطهران وأنقرة. وكان السؤال الذي يتردد دوماً وسط كل هذه الاعتراضات الواضحة والتحديات الكثيرة: على ماذا يراهن السيد بارزاني في الإصرار على المضي في مشروع الاستفتاء؟ لا بل أن هذا الأصرار وسط كل هذا الرفض الدولي والعداء الإقليمي خلق انطباعاً لدى كثيرين، بمن فيهم ساسة كرد عراقيون، مفاده أن لا بد من وعود أكيدة خفية بالوقوف معه في مشروع الاستقلال، لا يستطيع رئيس الإقليم الإفصاح عنها حتى يقوم بهذه المواجهة مع الجميع! ابتدأت النكسة في ليلة سقوط كركوك 15-16 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وتلتها سريعاً مناطق جلولاء وخانقين، وسقوط قضاء سنجار ومناطق أخرى في سهل نينوى في قبضة الحشد الشعبي والجيش العراقي، وهي مناطق كانت تحت سيطرة الحزبين الحاكمين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، انتزعتها القوات العراقية والحشد الشعبي بسهولة فائقة ولم تجر إلا مقاومة من قبل البيشمركه على تخوم العاصمة أربيل عندما انفتحت شهية الحشد الشعبي للتوغّل أكثر في أراضٍ تابعة إدارياً للعاصمة أربيل أو محاولة السيطرة على منقطة فيشخابور والحدود مع المنطقة الكردية في سورية. أما المناطق المتنازع عليها فقد سقطت بسهولة غير متوقعة وكأن هناك اتفاقاً في كل المناطق المتنازع عليها (وليس فقط من قبل مجموعة صغيرة من قبل الاتحاد الوطني الكردستاني في كركوك) أو عدم وجود قرار بالمقاومة العسكرية أو سحب هكذا قرار إن كان قد أقرّ سابقاً. مناطق متنازع عليها هذه المناطق تصنّف وفق الدستور العراقي ضمن المناطق المتنازع عليها. ويسميها الكرد المناطق الكردستانية المستقطعة خارج إدارة إقليم كردستان. والتي كان من المفروض وفق المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 أن يحسم أمرها في مدة أقصاها آخر يوم من عام 2007 (لتحديد إرادة مواطنيها) أي هل ستصبح ضمن إدارة إقليم كردستان أم تتبع إدارة المركز الاتحادية أم تنضم إلى إقليم جديد أو تصبح إقليماً خاصاً. لم تنفذ المادة هذه طيلة السنوات الماضية ما خلق انطباعاً لدى القيادة الكردية أن بغداد تماطل في تنفيذ هذه المادة عمداً كي لا تصبح ضمن تابعية إقليم كردستان. ومع اجتياح «داعش» الموصل وانهيار الجيش العراقي السهل وتمدد الدولة الإسلامية في 2014، صارت كردستان جارة للدولة «الإسلامية» ومطوقة بالكامل ما عدا الحدود التركية على طول حدود تقارب ألف كيلومتر تمتد من خانقين وجولاء على الحدود الإيرانية حتى سنجار على الحدود السورية مروراً بكركوك. تمكنت البيشمركه بمساعدة فاعلة من قوات «التحالف الدولي» من طرد «داعش» في كل هذه المناطق وأدمجت بذلك تلك المناطق المتنازع عليها في السيطرة الكردية، إن في كركوك أو سنجار وكل المناطق الواقعة في سهل نينوى وشرق الموصل. حينذاك تردد على ألسنة المسؤولين الكرد أن المادة 140 حلّت بطبيعة الحال .أي أنها أصبحت تابعة إدارياً لإقليم كردستان. وقد «حسم» رئيس الإقليم مسعود بارزاني الأمر مبكراً بُعيد دخول البيشمركه الى هذه المناطق قائلاً في حزيران (يونيو) 2014 «لقد حاولنا تطبيع الأوضاع في هذه المناطق عبر تنفيذ المادة 140 من الدستور لكن محاولاتنا لم تثمر، والآن بالنسبة إلينا تم تنفيذ هذه المادة ولن نعود للحديث عنها بعد الآن». وفي تموز(يوليو) 2014(أي بعد سقوط الموصل بيد داعش في العاشر من حزيران) لوّح رئيس الإقليم مسعود بارزاني بورقة استقلال كردستان مجدداً(وكان في كل مناسبة ومقابلة صحافية يؤكد حق الكرد في الاستقلال) ودعا برلمان إقليم كردستان الى الاستعداد واتخاذ الإجراءات المناسبة لتنظيم استفتاء حول استقلال الإقليم، وقال إن هذا الاستفتاء سيقوي موقفنا وسيكون سلاحاً قوياً في يدنا. وأشار إلى أن استفتاء تقرير المصير يمكن أن تكون فيه مجازفة ولكن الأوضاع سانحة لأن نقول للعالم ماذا نريد ولا أحد يستطيع أن يعاتبنا. استفتاء 2005 بيد أن اجتياح «داعش» المناطق المتنازع عليها هدد أربيل في شكل مباشر، وانخرط الإقليم في غمار المعارك ضد «داعش»، وطوي ملف الاستفتاء آنذاك في 2014. سبق هذا التلويح بالاستفتاء، استفتاء آخر غير رسمي أجرته منظمة غير حكومية ولم تتبنّه السلطات الكردية رسمياً في كانون اثاني (يناير)2005 إلى جانب الانتخابات البرلمانية العراقية وانتخابات كردستان العراق، وكانت النتيجة غالبية ساحقة(98.8 في المئة لمصلحة الاستقلال) وكان عدد المشاركين يقارب مليوني نسمة، والملاحظ أنه لم يكن هناك تفاوت بين محافظات ومناطق الإقليم لمصلحة الاستقلال كما هو في استفتاء2017.(هناك مقارنات عدة يمكن عقدها بين نتائج هذا الاستفتاء واستفتاء 2017). في الاستفتاء الحالي أصرّ بارزاني على أنه ليس استبياناً للرأي فقط، بل هو مشروع للاستقلال تقوده الحكومة. ولم ينفع القول إن الاستقلال لن يتحقق في اليوم التالي، وإن الأكراد يتطلعون إلى المفاوضات والحوار مع بغداد من أجل تحقيق الاستقلال في تهدئة الغضب العراقي والإقليمي والدولي. كان بارزاني يلحّ على أن المفاوضات إن حصلت ستكون من أجل الاستقلال فقط، وليس من أجل الموازنة والمسائل الإدارية. وهنا مكمن الخطأ الكبير، بعد مغامرة إجراء الاستفتاء الذي كان مخاطرة كبيرة في الأساس وإن كان عملاً سلمياً ولم يترجم على الأرض إلى إعلان أي كيانية سياسية جديدة. عمليات دجلة ودرع دجلة على الأرجح أن وضع كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها، لم يكن ليستمر تحت السيطرة الكردية وحدها من دون انتزاعها كلياً أو على الأقل من دون مشاركة القوات الحكومية في بغداد سواء أجري الاستفتاء أم لا. فعلى سبيل المثال أعلنت وزارة الدفاع العراقية في حكومة نوري المالكي في 3 تموز2012 (أي قبل أن تقع المناطق المتنازع عليها تحت سيطرة البيشمركه الكردية بالكامل بعد 2014) عن تشكيل «قيادة عمليات دجلة» في كركوك وديالى وصلاح الدين. عارضتها القيادة الكردية واعتبرتها تهديدا لأقليم كردستان. وهدد المالكي آنذاك بأن «مغادرة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني والمسؤولين الأكراد إلى خارج العراق لن تتم بعد الآن من دون موافقة الحكومة المركزية». كانت حكومة بغداد بانتظار التقاط أنفاسها والانتهاء من حرب «داعش». لحسم قضية كركوك وبقية المناطق. ما فعله الاستفتاء من لحظة الإعلان عنه أنه حقق (وحدة وطنية) كبيرة في بغداد بين الممثلين الشيعة والسنة وبقية المكوّنات ورفع درجة التنسيق والتحالف التركي الإيراني (الذي لم يتوقف يوماً على رغم المنافسات هنا وهناك). كما أن تركيا أيضاً هدّدت بعملية «درع دجلة» في العراق في نيسان 2017، على غرار «درع الفرات» في سورية. كان الهدف منها السيطرة العسكرية المباشرة على كامل المنطقة بين سنجار وحتى المثلث العراقي التركي السوري بحجة مكافحة حزب العمال الكردستاني. وكان أحد أهداف درع دجلة، ومازال، هو خنق منطقة (روجافا- فيديرالية شمال سورية) من جهة العراق. ما فعله الاستفتاء باختصار أنه جمع في آن واحد بين خطة(عملية دجلة) العراقية التي تحققت كاملاً و(درع دجلة) التركية التي تحققت جزئياً وهي في طور التحقق كاملاً إن سارت الأوضاع على ما هي عليه الآن، في حين كان من الممكن قبل الاستفتاء أن يتحفظ العراق (وإيران) والولاياتالمتحدة على (درع دجلة) أو ألّا تحظى خطة (عملية دجلة) بهذا الدعم الإقليمي الهائل من تركيا وإيران ومن دون أي تحفظ دولي من قبل الولاياتالمتحدة. وفي قضية كركوك تحديداً فإن للأميركيين مواقف سابقة ضد إبقائها تحت السيطرة الكردية. تجلى ذلك بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، حين سيطرت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني على المدينة، وأجبرتها الولاياتالمتحدة على الانسحاب لاحقاً. وكذلك في تقرير بيكر- هاملتون الذي صدر في عام 2006، ورسم مجمل خطوط السياسة الأميركية المستقبلية في العراق، بعد مشاورات مكثفة مدة تسعة شهور بين قادة عسكريين وسياسيين أمنيين وخبراء وديبلوماسيين أميركيين، كان قد رفض تقسيم العراق الى ثلاث دويلات لأنه سيؤجج الصراعات العرقية والطائفية في العراق ويؤثر في استقرار دول الجوار. ودعا إلى وضع موارد النفط بيد الحكومة المركزية حصراً، من دون أي سلطة للأقاليم. ودعا إلى عدم إجراء استفتاء في كركوك (شبّهها التقرير ببرميل بارود)، كما هو مقرّر في الدستور في 2017. لأنه قد يفجّّر برميل البارود ويجب تأخيره، ودعا إلى تحكيم دولي في كركوك. كما أقرّ التقرير بدور كبير لدول الجوار في العراق. اعترض الأكراد على التقرير آنذاك بشدة. وفي النكسة الحالية، فإن المجموعة الصغيرة التي اتفقت مع الجنرال الإيراني المتنفذ في العراق قاسم سليماني والحكومة العراقية حول(صفقة كركوك) هي وثيقة الصلة بالضباط العسكريين الأميركيين في العراق وممثل الولاياتالمتحدة في التحالف الدولي ضد «داعش»، ماكغورك. كان في إمكان بارزاني بعيد الاستفتاء مباشرة تدارك تداعيات الاستفتاء في العراق والمنطقة وسماع طبول الحرب بإعلانه أن هذا رأي غالبية الأكراد وأنه حق- كما يقول دوماً-، لكننا كقيادة سياسية نقدم مبادرة سياسية للحل تتضمن قضايا مختلفة (إدارة مشتركة للمناطق المتنازع عليها حتى تحديد موعد محدد لإجراء استفتاء عام في المناطق المتنازع عليها بأشراف أممي لحسم مصير هذه المناطق وفق المادة 140 من الدستور العراقي، وقضايا أخرى عديدة (حصة إقليم كردستان الموقوفة من الموازنة الاتحادية منذ شباط 2014)، أي كل القضايا ما دون الاستقلال. وكان سيلقى تجاوباً في الأرجح، على المستوى الدولي. لكنه آثر الاستمرار في التصعيد الخطابي بعناد شديد: متمسّكون بنتائج الاستفتاء ولن نتفاوض إلا على الاستقلال. وتبيّن لاحقاً أنه عناد شخصي لا يستند إلى أية معطيات واقعية داخلياً وخارجياً. بخسارة آبار النفط في كركوك يفقد الإقليم نصف وارداته. وإذا وضعت المعابر الحدودية تحت سيطرة الحكومة الاتحادية كما هو مخطط فإن الإقليم أمام إفلاس اقتصادي حقيقي. هذا مع العلم أن هناك ما يزيد عن 20 بليون دولار ديوناً مترتبة على حكومة أربيل. أصبح الإقليم، والحال هذه، في موقع هشّ للغاية وستضطر حكومة أربيل إلى القبول بأي عرض من بغداد، لقاء صرف موازنة الإقليم. بعداء شديد من بغداد وإيران وأنقرة، وجبهة داخلية هشّة بخلاف ما أظهرته كرنفالات الاستفتاء، وخطأ فادح في تقدير الأخطار من كل الجوانب، وعناد غير مبرر من بارزاني، أدى الاستفتاء إلى عكس ما كان يُرتجى منه، ليس فقط بتبدد حلم الاستقلال، بل إن مكاسب كردستان في الفيديرالية الواسعة ما بعد 2003 الأقرب إلى الكونفيديرالية أو الدولة المستقلة عملياً كلها باتت مهدّدة بفعل أصرار بغدادوتركيا وإيران على تلقين الكرد درسا قاسياً نتيحة التفكير بحلم الاستقلال. مغامرة؟ لم يرتكب بارزاني أي ذنب حين أعاد إلى الأذهان حق الشعب الكردي المشروع في الحلم بالاستقلال أسوة بغيره أو دفع المسألة الكردية مجدداً إلى دائرة الاهتمام والضوء محلياً ودولياً، بيدَ أنّ لهذه المغامرة أكلافاً باهظة. والتساؤلات التالية تظلّ معلّقة: على ماذا كان يراهن بارزاني حقاً؟ ولماذا أساء تقدير حجم العداء الإقليمي والرفض الدولي؟ ولماذا لم يبدِ مرونة في تجميد نتائج الاستفتاء قبل النكسة أو تحويلها إلى استبيان رأي؟ هل كانت هناك حسابات شخصية وخوف من أن يتهم بالتنازل عن حلم الاستقلال من قبل جمهوره؟ وإذا كان الأمر بهذا الإصرار والعناد فأين كانت التحضيرات العسكرية لمعركة كركوك وبقية المناطق التي كانت وشيكة الحدوث وفق تحذيرات مجلس أمن إقليم كردستان؟ ولنفرض أن الجبهة الكردية كانت موحدة ومعززة عسكرياً في كركوك ماذا كان سيترتب على ذلك في الشروط المشارة أعلاه؟ هل كان بارزاني، وهو السياسي المتمرّس الذي خبر بنفسه غدر السياسات الدولية بحق الكرد أكثر من مرة، يسعى فعلاً إلى ما هو دون الاستقلال لكن أساء تدبير الحملة سياسياً؟ أم أنه وقع ضحية وعود مبهمة من ديبلوماسيين أجانب وسياسيين غير نافذين في عواصم الغرب(روّجوا في الغرب لاستقلال كردستان مقابل مبالغ طائلة تلقوها من أربيل)، أو تلقى إشارات خاطئة من جهات إقليمية أرادت توريطه؟ أيّا يكن الأمر، هناك آثار بعيدة المدى في هذه المغامرة التي قادها السيد مسعود بارزاني، ليس أقلّها تحجيم إقليم كردستان جغرافياً و «سيادياً» إلى حدود ما قبل 2003 ووضعه فعلياً تحت رقابة مركزية صارمة بعد أن كان شبه دولة باسم الفيديرالية، وزاد من الانقسام الداخلي والتبعية لدول الجوار والرضوخ للشروط السياسية التركية في مجمل السياسات التركية وعلى رأسها ضغط تركي أكثر على الإقليم، والحزب الديموقراطي الكردستاني في شكل خاص، للانخراط الفاعل في المشروع التركي لمحاربة حزب العمال الكردستاني ومنظماته في المنطقة، وتجربة «روجافا» في سورية التي هي بدورها مغامرة كردية أخرى.