العنوان الطويل لهذه المقالة هو شاعر واحد وأربعة رؤساء فعليين ورئيسان في المهد. والشاعر الواحد، هكذا يظن نفسه، هو الشاعر الكبير ذو المقام العالي الذي لا يعادل مقامه في مصر، وفق تعبيره، سوى مقام الطيب الذكر جابر عصفور، ولقد صدق فهما شبيهان. الشاعر هو أحمد عبدالمعطي حجازي. في أواخر العام 1971 التقيت حجازي للمرة الأولى، كنت طالباً في الجامعة، وكان كاتباً في مجلة «روز اليوسف»، وأعطيته عدداً من مخطوطات قصائدي الأولى، وفي شباط (فبراير) 72 كانت مقالته «نداء إلى شعراء المستقبل» إحدى ثمار هذا اللقاء، ربما ثمرته الوحيدة، وفي هذه المقالة مدحني وكتب اسمي الرباعي كاملاً، وتنبأ بأنني سأختصره، وبشّر بشعري. في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عاد نهائياً من مهربه الاختياري في باريس، وشرع في كتابة مقالات نشرها مسلسلة في صحيفة «الأهرام»، كان عنوانها الجامع «أحفاد شوقى»، بينما عنوانها السري «أبناء حجازي»، وخصّ شعري بأربع مقالات من هذه السلسلة. أيامها كان يجتهد في سبيل إعادة فتحه لمصر، وصناعة بطانة تحيطه وتهلل له، وكنت مرشحاً لديه لأن أكون واحداً من هذه البطانة، لولا أنني رأيته رؤية غامضة، وكأنه كاريكاتور طه حسين، ولولا أنني لا أصلح عضواً في بطانة. في أوائل التسعينات اصطحبني معه إلى مبني التلفزيون المصرى، لأشاركه التسجيل في برنامج كانت تقدمه المذيعة هند رشاد، ابنة المذيعة المشهورة فريدة الزمر، انشغلت غالب الوقت عن مدحه بالنظر إلى جمال المذيعة. ومنذ أواسط التسعينات والطريق التي جمعتنا بعض الوقت تتراجع وتنسد، لأنها كانت تضيق ولا تسمح لنا معاً بالسير متجاورين، بخاصة أن جسده المنفوخ بما يتوهمه عن نفسه، يجعل من يسير معه مجبراً على أن يسير إما خلفه وإما أمامه، لذا تركت الطريق له وحده وابتعدت، مما أتاح لي أن أراه بوضوح، وأكتب عنه بوضوح أكثر، وكانت إحدى مقالاتي عنه آنذاك «أهمية أن تكون أحمد عبدالمعطي حجازي» التي تمنيت له فيها أن يسكت. كانت مقالتي هذه قد دفعته فور نشرها، للذهاب ليلاً إلى بار من بارات وسط المدينة، والسهر بين أصدقاء وخصوم لي، بعضهم أبلغني شتائمه التي خصّني بها، وكادت بذاءتها الشديدة تنجح في إلغاء وجوده من ذاكرتي، لولا أنني أصررت على هذا الوجود، الذي سينبهني دائماً إلى خطر أن تتحول من شاعر إلى شبه شاعر، ومن مشروع مثقف إلى مشروع متكلم. في التسعينات قابلت حجازي في باريس، وكان قد انتقل إليها في الوقت ذاته تقريباً الذي غادر فيه أدونيس بيروت إلى باريس، أي قبل منتصف السبعينات، ومع العلم بأن حجازي، ومنذ الزمن الناصري، كان يستهين بجماعة شعر، ويستصغر شأن أنسي الحاج، ويسعى كلما سنحت له الفرصة إلى هجاء أدونيس الذي لم يلتفت إليه سوى مرة واحدة، أظنه ندم عليها، إلا أنني وأنا في باريس لاحظت أن كراهته لأدونيس اشتدت وطأتها عليه، فسنواتهما الطويلة هناك سمحت لأدونيس أن يصبح أحد أعضاء الإنتليجنسيا الفرنسية، ولم تسمح لحجازي سوى بالوجود بين الجاليات العربية بخاصة الشمال إفريقية، كما أن أدونيس رفض في أكثر من مناسبة، أن يشاركه حجازي حق القراءة في الأمسيات الشعرية، ليس في باريس فقط، فالمسافة بينهما هناك كانت شاسعة، لكن في بعض العواصم العربية التي ما زالت تعامل حجازي بأثر رجعى، وعلى اعتبار أنه أحد الرواد المحليين. في أول حياة حجازي الشعرية، وكما تشير الحوليات، سعى إلى خصومة ترفع من قدره، فكتب قصيدة هجاء للعقاد، لكن العقاد شمخ بأنفه وتجاهله، وعندما سئل، أعني العقاد، عن الشاب الذي يقبل محاورته، قال: هذا الولد صلاح عبدالصبور، لأنه يقرأ. أيامها كان صلاح قد هاجم العقاد أيضاً، وكان يقرأ فعلاً، وظل يقرأ حتى مات. في العقدين الأخيرين، يتقمص حجازي روح العقاد، ويتصور نفسه، وهو القصير، طويلاً وجباراً مثله، ونسي أن العقاد كان لا يكف عن طلب المعرفة، وأنه، أي حجازى، لا يكف عن الهروب من المعرفة. دعاني حجازي أكثر من مرة إلى بيته، ورأيت مكتبته، وأسفت عليه، لأنه لا يمكن مكتبة شاعر أن تكون محمية بكل هذا الفراغ. بدأ حجازي مشواره منذ أواخر الخمسينات تقريباً، وبرز كشاعر أيام بروز عبدالناصر كزعيم، فكتب عنه القصائد التي تجعله أحد مريدي عبدالناصر، كما كتب أسوأ قصيدة في مديح الاتحاد الاشتراكي العربي، سمّاها «أغنية للاتحاد الاشتراكي»، ثم في زمن المراجعة جعل اسمها «أغنية لحزب سياسي» بغية الإخفاء. سلطة عبدالناصر كانت حصيفة أحياناً، واستطاعت أن تميز بين الأصيل والمغشوش، لهذا لهثت خلف صلاح عبدالصبور الحريص على صناعة مسافة بينه وبينها، الحريص على هجاء الرجل ذي الوجه الكئيب، وأهملت أحمد حجازي الذي يحاول أن يتماهى معها. كان عبدالناصر هو الرئيس الأول في حياة حجازي الشعرية، أراد أن يكون منشده ومغنيه. عهد ومراجعة في أوائل السبعينات وبعد موت عبدالناصر، ظل على العهد زمناً قصيراً، ثم بدأ المراجعة، وكتب ديوانه «مرثية للعمر الجميل»، وفي أواخر السبعينات، أيام كان حجازي في باريس، وعقب اتفاقية كامب ديفيد، وحيث المعاداة العربية لنظام السادات، وحيث جبهة الصمود والتصدي، حضر أحد الملتقيات التي ينظمها تجمع السفراء العرب في باريس، وعندما تحدث أحدهم عن السادات الخائن، انتفض وهتف بصوت عال يمكن بسبب قوته أن يصل إلى أسماع الرئيس المصري في القاهرة، هتف: إخرس يا كلب، ولا بد من أنه كان يعلم أن الجواسيس سيقومون بواجبهم في الإبلاغ. بعدها مباشرة زار حجازي مصر للمرة الأولى منذ سفره، وفي نهاية زيارته تلك احتفل في بيته بعيد ميلاد أحد أبنائه في حضور صلاح عبدالصبور، وكانت هذه الليلة، هي ليلة إسدال الستار على حياة صلاح، مات بأزمة قلبية دهمته على أثر حوارات سياسية عنيفة في منزل حجازي. في زيارته التالية لمصر، وربما في الزيارة ذاتها، استدعاه الرئيس السادات، واستقبله في استراحة القناطر الخيرية، والمحاورة الشائعة التي جرت بينهما، ووفق رواية حجازي، كانت طريفة، السادات: هل زرت أمك يا أحمد؟ حجازي: نعم زرتها، السادات: هل أنت ملحد يا أحمد، حجازي: كثرة الأسفار والقراءة تعلم القلق، السادات: إنني رأيت كتبك يا أحمد في مكتبة مدبولي، أنا لا أحب شعركم، أحب الشعر ذا الفلقتين، حجازي يصمت، السادات: هل تسببت في موت صلاح يا أحمد، وهكذا. المهم أن حجازي ذهب إلى السادات وهو يظن أنه سيولّيه منصب صلاح، رئاسة هيئة الكتاب، لكن السادات لم يفعل، اكتفى بأن كلفه بإبلاغ مثقفي مصر في باريس بعهد الأمان، من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان هو آمن، منذ ذلك التاريخ تقريباً بدأ حجازي مراجعته الصريحة وهجومه العنيف على نظام عبدالناصر. كانت مراجعته الشعرية كما قلنا قد بدأت منذ فترة سابقة، وآنذاك أصبح نظام عبدالناصر هو التجسيد السلبي لحكم العسكر، والذي يتنافى مع طموح حجازي الراغب في دولة مدنية. في أواخر الثمانينات، قابلت حجازي في حديقة نقابة الصحافيين، ثم في إحدى قاعاتها، كان أيامها يبتدئ الكتابة في «الأهرام». في ذلك اليوم كانت النقابة تستضيف أدونيس الذي قرأ بعضاً من قصائده، وفتح باباً للحوار، بدأه حجازي وقد وقف وكأنه النبي المسلح بقوة وجوده في بلده، وهاجم أدونيس على موقفه من شعر أحمد شوقي. كانت مرافعة حجازي طويلة، عقّب عليها أدونيس بجملة واحدة قالها أحد الصوفيين: «عجبت لشاعر يقف بباب السلطان»، بعد باب سلطان أدونيس نظرت إلى حجازي، كان قريباً مني، لكنني أحسست وكأنني لا أراه، ثم كانت المرة الثانية التي أحسست فيها وأنا أنظر إليه عبر شاشة التلفزيون أنني لا أراه، وذلك عندما نجا حسني مبارك من محاولة اغتياله في أثيوبيا. آنذاك تنافست الوزارتان؛ الثقافة والإعلام على تدبير عرس النجاة، وبحثت كل منهما عن الخطيب الذي يمثلها، واهتدت وزارة الثقافة إلى صائغ الكلام القادر على إمتاع الرؤساء وتطريبهم، اهتدت إلى حجازي، فمدح وأشاد، وخاطب مبارك بلسان حافظ إبراهيم: «أمير القوافي قد أتيت مبايعاً/ وهذي وفود الشرق قد بايعت معي». وقبل سقوط حسني مبارك بأشهر قليلة جداً، وعندما بدأ الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، له أو لابنه، استقبل أحد عشر كاتباً. في هذا اللقاء، تقدم حجازي لمبارك بطلب خاص، قال مطلبه بالطريقة ذاتها التي كان يمكن أن يعبر بها عن آمال الشعب المصري. وقبل أن تتم الأحد عشر كوكباً دورتها في السماء، كان مبارك قد سقط، وبعد عام من سقوطه تولّى محمد مرسي منصب الرئاسة، ولحجازي أحاديث طويلة عن معاداته للجماعة تشبه أحاديثه الطويلة عن معاداته للعسكر، ومع ذلك لم يمنع نفسه من اللقاء مع مرسي مرتين، إحداهما في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث كان يلهث ويزاحم في سبيل الاقتراب منه. أعترف بأنني صدقته بعض الشيء في تعريضه بالإسلام السياسي، ولكنني لم أصدقه قط في تعريضه بحكم العسكر، في حرب جنوبلبنان وإسرائيل، حرب 2005، والتي انتصر فيها اللبنانيون، ركب حجازي طائرة السيد جمال مبارك، الرئيس في المهد، من القاهرة إلى بيروت، والتي كان على متنها آخرون منهم جمال الغيطانى. الطائرة بالتأكيد حصلت على وعد الأمان من إسرائيل. في بيروت وأمام نبيه بري وجمال مبارك، ألقى أحمد حجازي كلمة المصريين، من المثير أن صورة الغلاف في جريدة «أخبار الأدب» المصرية في العدد الصادر عقب الزيارة، كانت للسيد جمال مبارك وبعدسة جمال الغيطانى. في الأيام الأخيرة وفي لقاء المشير السيسى، وهو الآن رئيس في المهد، أو في الخزانة، بالكُتَّاب المصريين، كان أحمد حجازي يرفع قامته التي يظن أنها طويلة وعملاقة فوق قامته القصيرة، وينفخ صدره الذي يظن أنه مملوء بهواء المجد فوق صدره المملوء بالفراغ، كان يرفع وينفخ ليكون في الصدارة، ولقد نسي تماماً كل مقولاته عن حكم العسكر، مع أن عبدالناصر لم يكن أعطى الجيش إلا نصف عمره أو أقل، بينما السيسي منح الجيش ما يزيد على ثلثي عمره. معجزة حجازي أنه يحمي صباه بعدم الرؤية، أتحداه أن يرى، فيك كل الذي أرى، معجزة حجازي فعلاً، أنه بدأ في الستينات كبيراً، واستمر لبعض الوقت، ثم أخذ يصغر ويتضاءل، حتى تلاشى تماماً. معجزة حجازي أنه يخفي تلاشيه بإصراره على الظهور الدائم في مجالس الرؤساء، ستة رؤساء وشاعر واحد. معجزة حجازي أنه ليس وحده، وأن آخر رؤسائه دائماً هو العود الأبدي، دائماً هو الخلود.