حتى الأمس القريب كان هناك تيار شعبي عريض، يعتقد أن الرئيس بشار الأسد يحمل مشروع تغيير وإصلاح، لكنه يصطدم بتيار منغلق، لا يريد لمشروعه الإصلاحي أن يرى النور. ولعل تأخر الرئيس في خروجه إلى وسائل الإعلام بعد أحداث درعا الدامية وما جاء على لسان مستشارته بثينة شعبان، بقولها إن الرئيس يعز عليه ويؤلمه أن تسقط قطرة دم واحدة، تبعه كلام لنائبه فاروق الشرع، من أن الأسد سيقول كلاماً، سيسعد ويطمئن الشعب السوري. كل هذا أعطى إشارات للداخل من أنه لن يخرج قبل أن يحسم قراره في القيادة السياسية وفي قصره الجمهوري، حيث أشيعت أخبار عن وجود وجهات نظر وخلافات، وأن الناس، ولا أقول المعارضة، كانت متفائلة حين أعلن عن موعد الكلمة التي سيلقيها الأسد تحت قبة مجلس الشعب بتاريخ 30/3/2011. لكن ما فعله المجلس جاء مخجلاً من حيث الشكل، فبدلاً من أن يقف الجميع دقيقة صمت على أرواح الذين سقطوا في الأحداث الأخيرة، ومن ثم يعزون أهالي الضحايا، إذا بالمجلس يتحول إلى زفة و عراضة على الطريقة الشامية، ليأتي المشهد مستفزاً لمشاعر ملايين الناس، هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون فقد كان خاوياً لا يحمل أي جديد عما قالته مستشارة الرئيس في مؤتمرها الصحافي، الأمر الذي أخرج من ذهن السوريين فكرة وجود تيارات داخل القيادة السياسية، وأن النظام كتلة واحدة تتمحور حول الاستئثار بالسلطة مهما كان الثمن. البعض رأى في تأخر ظهور الرئيس وجود اعتبارات خارجية وداخلية، وهو ما عبر عنه «بوضوح الصورة»، ومن يراقب المشهد السوري يرَ أن التحرك الشعبي في دمشق العاصمة وحلب ثانية أكبر المدن السورية لم يرق إلى المستوى المأمول منها. ففي دمشق حيث الحليف التاريخي للنظام تقف غرفة التجارة ومن خلفها غرفة الصناعة إضافة إلى قطاع كبير من المرجعيات والمؤسسات الدينية إلى جانب خيار الاستقرار حفاظاً على مصالحها. ناهيك عن وضع الأقليات التي يتم تخويفها من التحرك «الإسلامي». أما في حلب عاصمة الشمال فمعلوم مدى تأثرها بالمناخ التركي. وهو ما يحيلنا إلى الخارج، فمنذ قيام الثورة الليبية كان الموقف التركي متردداً في فرض حظر جوي، ثم رفض الأتراك في شكل قاطع أي تدخل عسكري للمجتمع الدولي، وأخيراً جاء موقفهم واضحاً لجهة عدم دعم الثوار الليبيين بالسلاح خشية وقوعه بيد الإرهابيين، فحزب العدالة لديه من المشاكل الداخلية ما يكفي، ولا يجرؤ على فتح الباب أمام أي حراك معارض لا سيما لجهة الأكراد والعلويين، من هنا هو مع النظام في سوريا، كي يقوم ببعض الإصلاحات التي من شأنها أن تحول دون تردي الأوضاع. المخاوف التركية عكستها زيارة أردوغان إلى العراق وإلى إقليم كردستان، فالحكومة التركية تريد شراء الوقت حتى قدوم الانتخابات في العام المقبل وما تبحث عنه هو الاستقرار في المنطقة، من هنا كان الإخوان المسلمون في سورية، عاتبين على الموقف التركي. فلو تأخر المجتمع الدولي في ليبيا يوماً واحداً لقضي على الثورة. من هنا تأتي أهمية الموقف الدولي والذي على ضوئه يتحرك النظام في سورية. على هذه الأرضية جاء خطاب الرئيس، تكريساً وامتداداً للسياسة المعمول بها. والملفت في الأمر أن كل حديث عن الإصلاح لم يكن ليحدث إلا نتيجة لضغوط خارجية، عندها فقط يتذكر الداخل، فيبدأ بإشاعة الإصلاح، وما إن يزول الضغط حتى يتناسى ما وعد به. هذا التذاكي والاستخفاف بمطالب الجماهير في الحرية السياسية، يعمّق الهوة ويزيد الفجوة بين الحكم وطيف واسع من المجتمع السوري، إذ لا يكفي اعتراف الأسد بما معناه: «كان في الإمكان الإصلاح الذي اشتغل عليه عام 2005 أن يتحقق في عام 2009 أو 2010 وما حصل من تأخير مرده إلى التقصير وهذه أحد الأخطاء التي ارتكبناها، ففي النهاية نحن بشر ونخطئ المهم أن نستفيد من هذه الأخطاء». لقد كان المطلوب تقديم تضحيات حقيقية وتنفيذ ما قال عنه إنه جاهز منذ زمن، لا تقديم دروس في الوطنية. في المحصلة جاء الخطاب مخيباً لآمال الكثيرين، فالإصلاح الذي لا يأتي ضمن سياق طبيعي يظل مشوباً بالتوجس وفقدان الثقة، وهو ما يزيد من ضبابية المشهد وتعقيد الأمور، الأمر الذي يبقي الأبواب مشرّعة على الخيارات كافة. فهل بقي من وقت لتدارك ما هو أخطر، أم إن القرار قد اتخذ ولا رجعة عنه؟