بيان الخارجية التركية عن أحداث جمعة الآلام السورية التي أسفرت تظاهراتها عن مقتل ما يزيد عن مئة مواطن سوري برصاص الأمن، كان أشبه بالوصايا العشر: نقاط واضحة مباشرة، لا توجه اتهامات لكنّها تكرر وصية واحدة بأكثر من شكل وصورة، بأن لا تقتل!! وبالنسبة إلى دولة بشّر وزير خارجيتها قبل أشهر بأنها مرشحة للعب دور عالمي وأنها ستقود وتحدد مسيرة التطورات السياسية في المنطقة، بدا ذاك البيان ضعيفاً خجلاً ومتعالياً في الوقت نفسه، خجل لأنه لا يليق بموقف دولة تقول إن الشعب السوري هو امتداد للشعب التركي وتجمعه به صلات قرابة وتاريخ، وخجل لأنه لم يضع يده على الجرح ولم يخاطب الرئيس بشار الأسد مباشرة، المعني الأول بكل ما حدث، ومتعالٍ لأنه جاء بصيغة دولة تتفاخر بتجاوزها اختبار الإصلاح والتغيير بنجاح وتملي على جارتها خريطة طريق لتتبعها في ذاك المسار. باختصار، أكد البيان موقف تركيا المتمسك ببقاء الرئيس الأسد وليس نظام البعث، وإمهال الرئيس بعض الوقت من أجل تطبيق إصلاحات جذرية حقيقية على الأرض، كل ذلك بلا دم أو عنف. ومهما بدا هذا الموقف غير منطقي للبعض وصعب التحقيق لدى آخرين، فالحقيقة البسيطة تقول إن تركيا لا تملك موقفاً آخر غيره. فعندما انفرد وزير الخارجية أحمد داود أوغلو بالرئيس الأسد في زيارته له نهاية الشهر الماضي بدمشق، قدّم له باستفاضة التجربة التركية في عملية الانتقال من نظام الحزب الواحد الى نظام التعددية الحزبية عام 1950، وكذلك مسيرة الإصلاحات التي قام بها حزب العدالة والتنمية من أجل إنهاء سيطرة المؤسسة العسكرية والأتاتوركيين على مفاصل الدولة، وفي الحقيقة لم تكن تلك المجالسة التي امتدت ثلاث ساعات وتجاوزت في أريحيتها وصراحتها حدود البروتوكولات الرسمية لاجتماع بين رئيس دولة ووزير خارجية دولة أخرى، درساً في التاريخ السياسي، وإنما كانت محاولة لإيصال رسالة واحدة هي أن الرئيس الذي ينضم الى مطالب شعبه ويستقوي به على الحرس القديم ينجح في تخطي أصعب الامتحانات. لذا، كانت النصيحة التركية في حينه مبنية على ضرورة تغيير الخطاب الذي خرج به الرئيس الأسد في البرلمان، وضرورة وقف إطلاق النار على المتظاهرين، والبدء في عملية إصلاح حقيقية جذرية من دون خشية ردود فعل الأجهزة الأمنية أو دوائر المنافع والنفوذ. لكن، يبدو بوضوح أن النصيحة التركية لم تؤخذ في الاعتبار، بدليل بدء تغير جوهري لدى الإعلام التركي في النظرة الى الرئيس الأسد وزيادة جرعة الانتقادات. الموقف التركي من أحداث سورية وليبيا، وعموماً في العالم العربي بعد أحداث تونس ومصر، كان مبنياً دائماً على أولوية أن يقوم الرئيس بقيادة التغيير والإصلاح التي يطالب بها الشعب، فتركيا لم تكن مع إعطاء الرئيس المصري حسني مبارك فرصة ثانية من أجل تحقيق الإصلاح الذي وعد به خلال تسعة أشهر لحين موعد الانتخابات الرئاسية التالية التي كان من المفترض أن تجرى في سبتمبر المقبل، وذلك لأن الشارع المصري كان يغلي، ولم يكن هناك أي جهة يمكن أن تضمن عدم تفاقم الوضع على الأرض خلال تلك الفترة. لكن متابعة أنقرة تطور الأحداث بعد ذلك، خصوصاً التدخل الغربي القوي والسريع في ليبيا، جعلها تتنبّه الى أن الغرب قد يتخذ من الثورات العربية منفذاً للتدخل في الشرق الأوسط وإعادة ترتيبه من جديد، وهو ما يتناقض كلياً مع استراتيجية تركيا الأساسية في المنطقة المبنية على ضرورة حل الخلافات محلياً وعدم إعطاء أي فرصة لتدخل أجنبي جديد في المنطقة. لذا، جاء التحذير التركي مبكراً بأن المنطقة لا ينقصها عراق جديد، فأنقرة تخشى جدياً من استغلال الغرب ثورات المنطقة للعمل على تقسيم بعض الدول من خلال إذكاء الحرب الأهلية فيها كما يحدث الآن في ليبيا، أو زرع فتنة طائفية كما يجرى العمل عليه الآن في سورية، ويقف السياسيون الأتراك مندهشين أمام من يصدقون أن زعماء مثل الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني انقلبا الى شهداء للحرية والديموقراطية في العالم العربي، وكيف أن الليبيين لا يدركون أن حملة ساركوزي على القذافي كان الهدف الأساس منها التغطية على اعترافات سيف الإسلام القذافي أن ليبيا هي التي موّلت الحملة الانتخابية للرئيس ساركوزي، وكيف أن التدخل العسكري بحجة فرض حظر جوي على قوات القذافي بدأ يتدحرج تدريجاً الى إرسال قوات برية على الأرض وتسليح الثوار، لنقترب أكثر فأكثر من سيناريو العراق القديم. لا يزعج أنقرة أن تثور الشعوب العربية على حكامها، حتى في سورية، فالرئيس عبدالله غل قال إن تركيا تعتبر ما يحدث ربيعاً عربياً، وأن هذه الثورات تأخرت وأن المطلب بالتغيير حتمي ولا بد منه، لكن ما يزعج أنقرة هو هذا التدخل الغربي السافر لإدارة تلك الثورات والسيطرة عليها باسم الحرية والديموقراطية، وأن يصدق العرب الثائرون أن الغرب يقف معهم فعلاً لأهداف إنسانية بحتة. فالرئيس التركي عبدالله غل قال إن تركيا كانت من الدول القليلة التي رفضت طلب القذافي زيارتها بسبب طقوسه الغريبة وخيمته التي يريد أن يفرض بها أسلوبه وهيمنته على البلد المضيف، لكن الدول الأوروبية التي فتحت قصورها الرئاسية لخيمته – في إشارة الى فرنسا - ولم تفتح معه أثناء الزيارة ملف حقوق الإنسان في بلاده تتنافس اليوم على دعم الثوار ضده، فعن أي أخلاق وعن أي مواقف نتحدث؟ هل يهم تلك الدول الغربية مئات وآلاف الليبيين المسلمين الذين يقتلون في تلك الحرب الأهلية على يد أبناء جلدتهم وهم يحضّون الثوار على القتال ويرفضون التدخل المباشر لحسم المعركة كما فعلوا في ساحل العاج؟ وفي سورية أيضاً هناك ما يدعو أنقرة للقلق من تدخلات خارجية في أحداث الثورة، من دون أن يعني هذا أن أنقرة تصدق نظرية المؤامرة التي تطرحها دمشق، ولكن تقلقها صور عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التي يحملها المتظاهرون الأكراد في القامشلي شمال سورية، وهي تذكر جيداً حملة حزب العمال الكردستاني هناك عام 2004، فقط لكي يثبت لواشنطن قدرته على التأثير داخل سورية أثناء بداية أول تواصل بين الحزب والقوات الأميركية في شمال العراق، في تلك الحقبة التي كان بعض القوى في واشنطن يخطط لإطاحة نظام بشار الأسد، وما تبعه من انشقاق نائبه عبدالحليم خدام. كما ترصد أنقرة المسلحين الذين يمولهم خدام من الخارج والدور الذي يمكن أن يكون للمنشقين من عائلة الأسد – رفعت الأسد وعائلته – من تمويل أو تنظيم لبعض القوى. كل هؤلاء ترى أنقرة فيهم خطراً على مسيرة الثورة، ويزيد من قلقها احتمال تحول الثورة السورية السلمية الى ليبيا جديدة في حال انهار النظام أو تهاوت أركانه وأصبح البلد طوائف أو بلدات لا يحكمها نظام أو قانون (تجب الإشارة هنا الى أن الطرف الوحيد الذي لا يزعج أنقرة بمحاولاته للتدخل في سير الثورة السورية وتوجيهها هو تنظيم الإخوان المسلمين السوري، فتركيا ترى أن التنظيم جزء من الحياة الاجتماعية والسياسية، وهناك جناح قوي داخل حزب العدالة والتنمية يؤيد إعطاء فرصة للتنظيم على الساحة السياسية السورية، فمستشار رئيس الوزراء التركي إبراهيم قالن يعتبر أن ما يطالب به الإخوان المسلمون في سورية أمر لا حرج فيه ولا سوء، خصوصاً أنهم جزء من المجتمع السوري وليسوا غرباء، من دون أن يمنع موقف قالن - الذي يعبّر عن تيار معين في الحزب - الخارجية التركية من أداء واجبها الديبلوماسي في إصدار بيان ينفي في شكل غير مباشر احتضان تركيا وتبنيها تصريحات مرشد الإخوان السوريين التي أطلقها من اسطنبول الشهر الماضي). لذا، فبعد التجربة الليبية تفضل تركيا أن يقود الزعيم الثورة من خلال تلبية مطالب الإصلاح في مقابل العفو عن سوابقه في الفترة السابقة من الحكم، وهو في رأي المسؤولين الأتراك الحل الأمثل لوقف أي تدخل خارجي مغرض ولحقن الدماء التي لا تهم أي مراقب أجنبي يحاول التدخل لمصلحة جهة معينة. نصائح عملية تركية لسورية في هذا الإطار، نقلت تركيا الى الرئيس السوري بعض مواد الدستور والقانون التركيين، مع الترجمة الى العربية من أجل الاستفادة منهما خلال تطبيق الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس بشار الأسد في ما يتعلق بقانون الإعلام والتعددية الحزبية، وكذلك التعليم الديني، وذلك انطلاقاً من وجود تشابه في التركيبة الاجتماعية لتركيا وسورية القائمة على تعدد طائفي وعرقي، فعلى رغم الغالبية السنّية في البلدين فإن العلويين والأكراد موزعون على طرفي الحدود التي تمتد أكثر من 600 كيلومتر بينهما، وتدرك تركيا أن نجاح تجربتها في الانتقال من نظام الحزب الواحد الى التعددية الحزبية ما كان لينجح لولا وجود مؤسسة قوية مثل الجيش حافظت خلال تلك الفترة على المبادئ الأساسية للجمهورية العلمانية، وتدرك أيضاً أن عندما نضجت التجربة السياسية على أرضها فإنها لم تتردد في إسقاط وصاية المؤسسة العسكرية التي طالت أكثر مما يلزم، وذلك بالاستناد الى دعم الشعب حكومة العدالة والتنمية التي كانت تحتكم دائماً الى الاستفتاءات الشعبية والانتخابات المبكرة لتجاوز أي محاولة انقلابية عسكرية ضدها. وتعتقد أنقرة أن الرئيس بشار الأسد كان لديه رصيد شعبي يمكنه من بدء هذه المسيرة الإصلاحية المهمة، وأن تحقيقه هذه الإصلاحات سيزيد من رصيده، ولن يضعف من قوته في الحكم، فقانون الأحزاب المقترح يقوم – كما الحال في تركيا – على رفض قيام أي حزب على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، أي مع مراعاة علمانية الدولة، وهو ما سيدفع الإخوان المسلمين الى خطوة إصلاح من جانبهم على طريق حزب العدالة والتنمية التركي للتحول من جماعة دينية الى حزب سياسي يميني محافظ، والسماح بالتعليم الديني تحت رقابة وإشراف مؤسسة كمؤسسة الشؤون الدينية في تركيا سينهي تهمة العداء للدين التي يوجهها كثيرون للنظام السوري، وإطلاق حرية الإعلام ستكون سلاحاً بيد الأسد لا عليه، لأنه سيحارب بها الحرس القديم الذي يرفض مسيرة الإصلاح الجديدة. لكن هذه الآمال التركية كلها بدأت تتبخر سريعاً وتصطدم بالرصاص الذي انهمر كالمطر من بنادق الأمن السوري على المتظاهرين، لأن أنقرة تدرك أن ذلك الرصاص إنما يمزق صورة الرئيس السوري وينهي ما تبقى من رصيده الشعبي قبل أن ينفذ الى صدور مواطنيه، وهنا جاء وصف الكاتب التركي جنكيز شاندار الموقف في دمشق من خلال مقال عرض فيه مقارنة بين نظام الأسد الأب والأسد الابن قائلاً وباختصار إن حافظ الأسد كان قائد عائلة ودولة استطاع أن يطيح خصومه وأن ينفرد بالسلطة، لكن الأسد الابن هو المتحدث باسم عائلة الأسد الحاكمة – على حد تعبير شاندار – فيجب ألا تنتظر أنقرة منه ما فوق طاقته. لا شك في أن الرئيس بشار الأسد الصديق المقرب للمسؤولين الأتراك لم يستجب هذه المرة النصائح التركية وأن أنقرة تدرك ذلك تماماً ولا تخفي خيبة أملها وحزنها، وتدرك أن الحرس القديم ينجح في كل يوم في تثبيت صورة التحامه بالرئيس الأسد وأن أي محاولة للفصل بينهما مستحيلة فهما وجهان لعملة واحدة إما أن يبقيا معاً أو يرحلا معاً، وهي صورة بنت تركيا آمالاً كثيرة على كسرها وتغييرها، لكن ازدياد عدد القتلى يومياً لا يسعف أحداً ممن يريد إسداء النصيحة الى دمشق. في المقابل لا تستطيع أنقرة أن تتخلى عن الأسد سريعاً، ولا نعني هنا عن نظامه أو نظام البعث الذي لا تكن أنقرة له أي صداقة أو احترام، فالرئيس الأسد على حد وصف أحد المسؤولين الكبار في الخارجية التركية كان من أكثر الرؤساء تعاوناً مع أنقرة، وفي جلسة لم تتجاوز ربع ساعة من الحوار أمر برفع التأشيرات بين البلدين، وكان من أشد المؤيدين للأفكار التركية بالتكامل الاقتصادي والتنمية في المنطقة وبدور تركي فاعل على رغم علاقته القوية بإيران. وعلى رغم أن كل مسؤول تركي في حزب العدالة والتنمية يؤيد في داخله الثورة السورية ومطالبها، إلا انه يخشى على سورية من الفتنة الطائفية، وكل مسؤول تركي في الخارجية وفي الرئاسة يدرك أن إيران لن تقف متفرجة على إطاحة أهم حلفائها في المنطقة، وأن حزب الله اللبناني لن يقبل قطع حبله السري الذي يتنفس من خلاله ويتغذى، وأن لكل من العراق وإسرائيل مصالحها الخاصة وثأرها القديم مع سورية، ما يعقد المسألة في ذلك البلد ليبدو التفكير بأن يتكرر في سورية السيناريو المصري أمراً في غاية السذاجة. مشكلة أنقرة أنها ترفض أن تفكر بعواطفها وتطالب مئات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين المطالبين بالحرية والكرامة أن ينظروا الى احتمال تداعيات إسقاط النظام في هذا الشكل وما يمكن أن يتفجر عنه من مشاكل أكبر أقلها السقوط في حرب أهلية. فكيف يمكن تركيا أن تقنع متظاهراً يحمل روحه على كفه بأن يفكر في المستقبل؟ إنه أمر صعب. في المقابل تقف تركيا موقفاً حذراً – لكن دونما رفض قاطع – من سيناريو الضغط على نظام الرئيس الأسد من أجل فرض حوار مع المعارضة وعلى رأسها الإخوان المسلمون ومشاركتهم السلطة، فهو سيناريو تقول تركيا إن واشنطن ودولة خليجية تروجان له، وهو أمر لا بأس فيه لولا الترويج له من هاتين الدولتين وبوسائل إعلامية قوية، فلا مانع لدى أنقرة من مشاركة الإخوان في الحياة السياسية لأن الإخوان جزء من تركيبة المجتمع السوري، لكن أنقرة تبدو قلقة من محاولة دخول الإخوان من باب تفتحه أميركا أو دولة خليجية، وبصورة الإخوان القديمة التقليدية، من دون عملية تحول الى حزب سياسي يميني، وتفضل أنقرة أن يأتي دور الإخوان في إطار طبيعي من داخل الشارع السوري بعد إصدار قانون الأحزاب حتى يكون بالفعل جزءاً من التجربة الوطنية الجديدة، وكي يحظى بمباركة الشارع وقبوله ويتحصن به من أي رد فعل إيراني. وحتى تتضح الأمور فإن أنقرة لا يبدو أمامها سوى تكرار وصاياها العشر للرئيس الأسد وفي مقدمها: لا تقتل.