في روايته الجديدة «يكفي أننا معاً» (الدار المصرية اللبنانية)، قد يشعر قارئ عزت القمحاوي بصدمة ما، إذ يدخل عالماً جديداً، سارداً حكاية «جمال منصور»، المحامي الشهير، الذي يقع في غرام «خديجة»، التي تصغره بنحو ربع قرن. وبامتداد الرواية، يتبارى الاثنان في إظهار مدى معرفتهما العميقة بتاريخ الفكر، الأدب، والفن، ويسافران إلى روما، في رحلة تبدو أنها غيرت، بعض الشيء، من نظرة أحدهما إلى الآخر. وصدرت من قبل لعزت القمحاوي، روايات عدة؛ منها «بيت الديب»، «مدينة اللذة»، «غرفة ترى النيل»، وعدد من المجموعات القصصية؛ منها «حدث في بلاد التراب والطين»، «مواقيت البهجة»، فضلاً عن «كتاب الغواية» وكتاب «الآيك» وفيهما تأملات في الحياة وكتابات الآخرين. هنا حوار معه: بداية: ألم تخشَ من شعور بالصدمة قد يصيب قارئ «يكفي أننا معاً»، بما أنها تبدو بعيدة مما كتبته سابقاً من روايات؟ - أعتقد أن صدمة القارئ تحدث عندما يجد الكاتب في المكان الذي افترقا عنده في الكتاب السابق. حرصي على العلاقة الحسنة مع قلة تحبني يجعلني دائم التغيير، لن تجد العالم ذاته في كتابين لي، لكنك ستجد الانشغالات ذاتها. «يكفي أننا معاً» تبدو أكثر خفة مِن سابقاتها، لكن هذا محض وجه من وجوه الرواية. كونها حكاية حب بسيطة في معمارها الروائي، فيها من الاندفاع ما يتناسب مع عاشقة شابة، وفيها من الحذر ما يتناسب مع عاشق كهل يطرق أبواب الشيخوخة، وهكذا كانت الرحلة والمطعم الجيد، وكانت أسئلة الزمن التي تؤلمني شخصياً، وتخرج في كل عمل، وفيها السياسة كلمسات فرشاة ناعمة، إذ ليس من الحكمة أن تحتوي الرواية على الضجيج ذاته الذي يغرق فيه العالم العربي الآن. لماذا كتبتها؟ أعني هل خططت لكتابة «يكفي أننا معاً»؟ - في الحقيقة لا أعرف. المفكر يعرف أهدافه من الإقدام على تأليف كتاب، وخطة بحثه تكون واضحة في ذهنه، الروائي والمبدع عموماً يمشي وراء روحه، ربما وراء حب تحقق أو سعياً وراء حلم مفقود أو استعطافاً لحلم مشتهى. هل ارتباط «جمال» ب «خديجة» لم يكن حباً حقيقياً؟ - لا أحد يعرف معنى «الحب الحقيقي» ولكن هناك علامات للحب، لحنين اثنين لأن يكونا واحداً، أو لحنين شخص للحلول في آخر. «جمال منصور» لم يصل كهولته مِن دون أن يعرف الحب، كان هناك من أحبَّته وهرب، في الظاهر كان هروبه من أجل الوفاء بمسؤولياته تجاه إخوته الأيتام، لكن هذا لا يفسر الموقف في شكل أكيد، ربما هناك شيء ما داخله يجعله خائفاً من الحب، وقد كان سلوكه مع «خديجة» سلوك المحب والمتملص في الوقت ذاته، بعض الناس يخشون لحظة الاكتمال التي ليس بعدها إلا النقصان. الخوف من الفناء أحد أسباب الحب الذي يصل إلى هذه الدرجة أو تلك، مِن دون أن نعرف أبداً ما هو الحب الحقيقي وغير الحقيقي. لماذا اختصرت الحكاية كلها في «جمال» و «خديجة»، على رغم تعدد شخصيات الرواية؟ - ربما لأنني ظننتُ أنني أكتب أغنية؛ لهذا كان الاندفاع غير المحسوب نحو نوع مِن الرواية بسيطة المعمار. كم استغرقت في كتابة هذه الرواية؟ - في عشرة أيام من العزلة في شقة لا ترى الشارع في روما أتيت على النصف الأول من الرواية، وكان بوسعي تمديد إقامتي مدة مماثلة لتصبح الكتابة الأولى جاهزة، لكنني لم أفعل وتصورت أنني سأكمل بالاندفاع ذاته في القاهرة. عندما عدت تكالبت عليَّ المشاغل، وبين وقت وآخر كنت أنتزع نفسي لأعود إلى فرحي الخاص، لكن الكتابة لم تكن تتقدم بسهولة حتى تمكنت من عزلتي ثانية، لكن الوقت امتد لأضعاف ما كان بوسعي إنجازه في روما. خفة المكان تفرق معي كثيراً، وعموماً، أنا أكتب بسرعة شديدة ثم أراجع ببطء بالغ. وهكذا يستغرق العمل ما يقارب العامين. «يكفي أننا معاً» لم تشذّ عن القاعدة. لماذا جاءت النهاية مفتوحة؟ - القارئ يكتب معي دائماً. أحرص على ترك فراغات يملأها كل قارئ وفق تصوراته وأحلامه هو، والنهاية المفتوحة هي حصة القارئ أيضاً. في نهاية الرواية، تميل «خديجة» إلى شاب نصف إيطالي نصف عربي، يعجبها حضوره مِن دون أن نكون متأكدين أنها يمكن أن تفضله على «جمال»، الذي نراه وقد أتعبه ألم أسفل ظهره، يريد أن يتخلص من ألم حب غير متكافئ، ويريد أن يحتفظ به بالقدر ذاته. هذه الإيماءات في آخر الرواية هي إشارات إلى مخارج عدة، وعلى كل قارئ أن يختار لهذا الحب المصير الملائم. الرواية محملة بكمّ كبير من الأسئلة حول الأدب والفن واللغة... هل يمكن تصنيفها كرواية معرفية؟ - أنا سعيد إن كنت تراها هكذا، لكنني لم أقصد ذلك، أحب جداً أن تتضمن الرواية معرفة، لكن ليس على طريقة كونديرا، بل على طريقة دوستويفسكي. أي على ألا تكون الشخصيات مجرد شواخص يعلق عليها الكاتب أفكاره. «يكفي أننا معاً» تتضمن رحلة، وكان لا بد مِن وصف ما شاهده الحبيبان عرضاً. وكان هذا مفيداً في عرض أفكار ومعارف «خديجة» حول الفنون الجميلة، لنجد أنفسنا أمام بطلين متكافئين في الناحية المعرفية وإن اختلفا في السن والطبقة الاجتماعية، من هذه الزاوية يمكن الكثيرين أن يروا ثنائياً منسجماً. في إهداء كتاب «الغواية» تقول: «إن الإهداء هو أخطر نصوص الكتاب وبعض مَن يرتكبون حماقة تأليف الكتب يعرفون ذلك ويحجمون عن كتابة الإهداء»... لماذا ترى ذلك؟ - أؤمن بعمق أن الإهداء أخطر نصوص الكتاب، أرتبك جداً من كتابة إهداء لأحدهم، وأكون مرتاحاً جداً وممتناً لصديق يطلب الكتاب ولا يصرّ على الإهداء. وكما كتبتُ في ذلك الفصل في كتاب «الغواية»، أن لديَّ فكرة ما عن علاقة الكاتب بنصه وبالعالم. هناك نوع من التواضع المراوغ، هو سبيكة مكونة من الخوف من الكتابة والاعتزاز بما يصنع في الوقت ذاته، لذلك لا يمكن أن أقرأ كتاباً يحمل هذا الإهداء: «أرجو أن تعجبك هذه المحاولة المتواضعة...»، أو «أعدك بصحبة ممتعة...». ليس من حق الذي يرى أن عمله متواضع أن ينشره أصلاً، ولا يمكن ذاك المطمئن إلى قيمة ما كتب أن يكون قد أنجز عملاً يستحق القراءة من الأساس! كيف ترى جائزة ملتقى الكويت للقصة القصيرة؟ ما مدى تأثير ذلك في انتشار هذا الجنس الأدبي؟ - مبادرة جيدة تلك التي أطلقها الروائي والقاص طالب الرفاعي من «الملتقى الثقافي» وهو اسم ندوة يقوم عليها بجهده الذاتي، وأتمنى لها الاستمرار بعد أن وجد طالب مؤسسات تبنتها معه. في الحقيقة، هناك عوامل كثيرة ساهمت في انتشار الرواية، ومن ضمنها بالمناسبة، الاستسهال؛ فالرواية فن ماكر يعطي هذا الوجه، لكن أيضاً كانت الجوائز سبباً في زيادة الإقبال على كتابة الرواية وزيادة إقبال الناشرين عليها، لهذا نحتاج إلى جوائز أخرى للقصة، لمساندة هذا الفن الرهيف الذي يستحق المساعدة. هل تذكر أول نص كتبته في حياتك؟ - كتبت شعراً ضعيف البنية، ساطع الغضب، كانت عيني فيه على الحب وعلى قضية العرب المركزية التي نسيناها الآن: فلسطين، ولم أنشر شيئاً من ذلك، ولم يُعرف عني أنني بدأت شاعراً أبداً. وللآن أكتب نصوصاً لا أرضى عنها فأكف ولا أكملها، ومعيار رضاي أقيسه بالفرح وإحساس اللعب أثناء الكتابة، عندما أضبط نفسي في حالة عمل، أي في حالة مكافحة أكف فوراً، وأرتد قارئاً حتى فرصة أو فكرة أخرى، ولا أخطط أبداً، بل أتبع قلبي، وقلبي يأخذني إلى القصص أو إلى الرواية، أو إلى كتاب خارج التصنيف.