الثورات الشعبية التي يشهدها عالمنا العربي اليوم، والتي تدعو إلى إسقاط الأنظمة الشمولية الاستبدادية واستبدالها بأنظمة ديموقراطية، ليست مرتبطة في الواقع بالثقافة العربية ولا بالإسلام، وإنما ارتبطت هذه الثورات بأسباب ظلت لعقود طويلة ماضية تبحث عن حلول وإجابات عن القلق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عانت منه الشعوب العربية طويلاً. وكل ما فعلته السياسة في الماضي أنها حافظت على مواقعها السلطوية بسلاح شركائها في المؤسسات الدينية التقليدية المختلفة، وغيّبت من خلالهم وتحت شعار الفتاوى والمسائل الدينية كل الخطط التنموية، وأولويات مجتمع الرفاهية الذي لو تحقق منذ زمن لأسهم فعلاً في تخفيف الاحتقان الذي نشهده اليوم حولنا على الأرض العربية، ولأنتج بالفعل بيئة منفتحة إسلامياً متعددة ومعتدلة. السياسات الغربية الخارجية هي الأخرى ساهمت في تهميش قضايا المسلمين ومطالبهم الحيوية عندما اختارت الوقوف إلى جانب السلطات السياسية العربية، وأعانتها على تثبيت أركان أنظمتها، حيث فرضت من خلالها طوقاً حامياً لمصالحها الخاصة في الشرق الأوسط. كل ذلك نتج منه فشل ذريع على المستوى الفكري والعلمي والثقافي في كل البلاد العربية، الأمر الذي أدى إلى هزيمة كل المشاريع السياسية التحديثية التنويرية لندخل في قضية صراع الإسلام السياسي ضد كل التيارات التنويرية الأخرى. كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن نماذج للديموقراطية تطالب بها كل شعوب العالم العربي المنتفضة ضد سلطاتها السياسية، ومن بينها نموذج الثورة الفرنسية الكلاسيكية التي مثلت ثورة اجتماعية تمازج المشروع الفكري فيها مع القوى الاجتماعية المدافعة عنها فنجحت وقتها بفضل الطبقة البورجوازية الفرنسية التي حققت في ظل نظام الإقطاع هيمنة طبقية قادرة على هزيمته. لكن ما يزيد الأمور تعقيداً في عالمنا العربي هو التوجه الآخر عند الثائر نحو التمسك، وفي شكل مبالغ في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العرب المعاصر، بشعار الإسلام السياسي كرد فعل على الواقع وأزماته وإخفاقاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية الآخذة في التصعيد، وكل ذلك على حساب إقصاء التيارات التنويرية الأخرى القادرة وحدها في هذه المرحلة على تمييز الحرية من الاستبداد، الأمر الذي يفتح الباب من جديد في المستقبل المنظور أمام صراع وعنف يتخذان من الإسلام هوية للسياسة، مما يجعل من إسلام الغد مبعثاً آخر للعنف، ولكن في هذه المرة سيكون هذا العنف بين المسلمين. سيشهد العالم العربي في المرحلة المقبلة صراعاً متطرفاً بين الإسلام السياسي الذي يحاول إثبات ذاته وتثبيت مصيره ووجود سلطته التي تقوم سياسياً على ركنين أساسيين هما الحاكم والرعية، في مقابل ولادات متعسرة لنماذج أنظمة ديموقراطية سياسياً تطالب بها الثورات الشعبية المعاصرة في مختلف الدول العربية ذات الثقل والعمق الاستراتيجي المؤثر في الشأن الفكري والعلمي والثقافي للإنسان العربي. لذلك سيتجه العالم العربي في المستقبل القريب نحو التطرف إلى اليمين الديني السياسي، أو اليسار التنويري في سياساته، الأمر الذي سيعقّد الوضع أكثر على الشعوب العربية بخاصة تلك التي قد تبتعد سياساتها عن نهج التوازن وتسلك مسلك التطرف سواء إلى اليمين أو اليسار. ولن يكون في مصلحة أي نظام سياسي عربي قادم دخل مرحلة التغيير التاريخي إقصاء أي تيار ايديولوجي تنويري، بما فيه التيار الإسلامي المعتدل، والاكتفاء فقط بالاتكال على تيار بعينه على اعتبار أنه كان شريكاً تاريخياً للنظام السياسي، فتلك مراحل تاريخية انتهت، والعالم أجمع يتجه اليوم الى مرحلة تغيير تاريخية شاملة تتخطى ما يعرف بالمرحلة الرابعة للديموقراطية والتي سيثمر من خلالها نظاماً دولياً جديداً. ثورات الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من الدول العربية الأخرى أنهت تاريخياً حقبة من الزمن كان فيها النظام السياسي هو السيد الحاكم، والرعية هي التابع فقط. بدأ هذا النظام عبر التاريخ منذ بيعة سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) وتم بعدها عزل الناس عن المشاركة في الحياة السياسية مما انعكس في شكل درامي عبر التاريخ على كل المجتمعات العربية والإسلامية. وعلى رغم كل المنظومات الثقافية التي احتك العرب والمسلمون حضارياً من خلالها بالثقافات الأخرى قبل فترة الاستعمار وبعدها في التاريخ الحديث، إلا أن القطيعة ظلت قائمة بين أنظمة الحكم العربية وبين المطالبة بالإصلاحات التي جفت بسببها أقلام المفكرين والمثقفين التنويريين وتقطعت حناجر الشعوب وهم يطالبون بها منذ منتصف القرن الماضي. ما يحدث اليوم ستكون عواقبه شديدة إذا اتجهت نحو الانحدار الى التطرف، فهناك ديموقراطيات في العالم العربي ستولد حاملة معها التغيير نحو المستقبل وستجد لها دعماً دولياً، وفي المقابل هناك استمرار لأنظمة حكم تتجه نحو الماضي قد تنجح في البقاء شرط أن تتجه نحو التوازن في سياساتها المقبلة، وتبتعد عن الاعتماد فقط على شركاء صنعتهم سياستها عبر التاريخ وألبستهم لبوساً دينياً. مثل هذه الأنظمة التي تتخذ من الإسلام السياسي شعاراً لها قد تنجح في البقاء الى المستقبل البعيد في حال تبنيها شروط نظام الدولة المدنية المعاصرة ذات الطابع الإسلامي، بشرط عدم محو أو نكران القيم والمبادئ والأخلاق التي جاء بها الدين الإسلامي الصحيح. الصراع القادم في المنطقة أراه صراعاً فكرياً وثقافياً، يتمحور حول أشكال الأنظمة السياسية الجديدة ودورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والديني بمختلف مذاهبه وطوائفه، لكنها جميعاً ستدور في ظل هوية إسلامية واحدة. * أكاديمية سعودية [email protected]