يراهن كثيرون على إمكان نجاح فكرة تأسيس أنظمة ديموقراطية سليمة في دول عالمنا العربي التي ثارت شعوبها ضد الفساد والظلم والطغيان، وأكثر هذه الرهانات تأتي من جهة كلِّ مَن يمثل تيار الإسلام السياسي مِن أحزاب وحركات دينية. وهذا ليس مستغرَباً من جهتهم، فعندما نتأمل مسلك تلك الأحزاب والحركات الدينية عبر التاريخ، التي قررت أن تدخل عالم السياسة تحت غطاء شراكة الدين، يتأكد لنا مقدار الصدمات التي تلقتها جراء ثورات الشعوب العربية ضد فسادها السياسي، خصوصاً بعدما اكتشفت أن الحقيقة السياسية لا يمكن لفئة ما أن تمتلكها لتفرضها على الآخرين تحت شعارات دينية زائفة، كون الحقيقة السياسية أثبتت في النهاية أن واقعها هو ثمرة القدرة على المشاركة في الحوار والنقاش وتدبير التوافق السياسي من دون إقصاء لأي فئة، لأن مجالها واسع للمساومات والتوجه الاجتماعي العام نحو بناء الرؤية والقناعات المشتركة. تنتظر كل الشعوب العربية، الثائرة وغير الثائرة، بناء الدولة المدنية على قيم الديموقراطية ومبادئها، التي هي في الواقع أساس الإسلام السماوي الصحيح، وهذه القيم يجب ألاّ يكون لها أيُّ إيمان راسخ في المستقبل، على اعتبار أن السياسة لا يحتكرها أحد، وبالتالي فإن الحقيقة ليست سراً، كما أنه ليس لفئة أن تمتلكها من دون غيرها. فالحقائق دائماً وسطية، والشعوب التي تسعى لبناء نظامها السياسي الجديد على أسس ديموقراطية سليمة لا بد لها أولاً من تأسيس رؤية مشتركة توافقية بين جميع الأطراف والفئات ومختلف شرائح المجتمع، وإن عجزت عن تحقيق مثل تلك الرؤية، فإن ذلك يعني إخفاقاً سياسياً لها يحصد نتائجه السلبية جميع أبناء الشعب الواحد. من المؤسف حقاً أن الأحزاب الدينية في عالمنا العربي الراهن لا تزال تمثل امتداداً لأزمة الفكر السياسي الإسلامي، الذي أسقطت أقنعتَه ثوراتُ الشعوب العربية وانقلابُها على أنظمة الحكم السياسي، لتكشف للتاريخ مرة أخرى مقدارَ الفساد والظلم والاستبداد المتخفي تحت ستار الدين. لذلك، فإن من يزعم من الأحزاب والحركات الدينية تغيير توجهاته في المستقبل نحو الديموقراطية، فإنهم بذلك يخدعون أنفسهم قبل الآخرين، وما سيعملون عليه لن يتخطى إعادة إنتاج أزمة خطابهم الديني نفسها، الخطاب الذي لا يتعامل مع معظم الحقائق والمسائل الدينية على أساس أنها فرضيات بينية، وإنما بوصفها مسلَّمات ذاتية تجب حمايتها والدفاع عنها. ولهذا، فإن سقف الأحزاب الدينية الإستراتيجي آخذٌ في الانحدار التدريجي، كونَها لم تتمكن إلا من تمثيل نفسها عبر التاريخ، خصوصاً عندما تحوَّلَ خطابُها من الدعوة إلى الله بالإسلام الصحيح والتبشير بوحدة المسلمين على كلمة الحق التي لا تأخذهم فيها لومة لائم، إلى مجرد أحزاب دينية وهيئات منظَّمة، ترفع شعار الإسلام لكنها في الواقع غارقة في وحل الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية البغيضة، كما يحدث حولنا الآن في العراق ولبنان ومصر والبحرين. ربما يقول أحدهم إن ما يحدث في عالمنا العربي اليوم هو بسبب ابتعاد الناس عن دينهم، وعن شؤون آخرتهم، وانصرافهم نحو شؤون دنياهم... وأمثال هذه المقولة التي مللنا تكرار سماعها من بعض المنتمين إلى مختلف الأحزاب الدينية في عالمنا العربي، وهي مردودة عليهم، لسبب بسيط جداً، وهو أن الدين لم ينسحب أساساً من الحياة السياسية العربية في التاريخ الحديث والمعاصر، فكل الدساتير السياسية للأنظمة العربية كان بعضها، ولا يزال بعضها الآخر، يحمل في مواده الرئيسية مقولة أن «الإسلام هو المصدر الأول للتشريع أو السلطة»، إضافة إلى أن أكثرية السياسيين العرب مسلمون عقائدياً وإن اختلفت توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية السياسية. لهذا السبب، لم تجد تلك الأحزاب الدينية، المتواطئة سراً أو علناً مع السياسية، أيَّ مجال لثوراتها الحزبية الدينية المضادة إلا على ساحات الفكر والعلم والثقافة في العالم العربي، فقد قادت تلك الأحزاب والحركات الدينية على مر التاريخ ثوراتها الهادفة إلى تصفية إرث الثورات الفكرية والثقافية في العالم العربي، إلى درجة إعلانها رفْضَ أيِّ أسس قامت عليها مختلف المشاريع التنويرية التحديثية. واليوم، من أجل تأسيس أنظمة حكم ديموقراطية ناجحة وبناء الدولة المدنية على أسس صحيحة في دول مثل مصر وتونس وليبيا واليمن والعراق ولبنان وغيرها من الدول العربية الثائرة، لا بد - في رأيي - من إيجاد أرضية للمصالحة الصعبة بين الثورات الفكرية التنويرية، خصوصاً الاتجاه الليبرالي منها، وبين ثورة فكر الأحزاب الدينية المضادة، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على عودة الأحزاب الدينية، وخصوصاً منها المتطرفة فكرياً، إلى قراءة الوقائع في ضوء التأويل العقلي، وليس بناءً على ظاهر النصوص المقدسة فقط، والتي تجعل المرء أسيراً لمعتقدات ومسائل فقهية كانت عبر التاريخ مختلفاً عليها، أو يظل مقيَّداً مثلاً بفكرة وجود فرقة واحدة فقط من دون غيرها ناجية من النار. المراجعات الدينية أصبحت مطلباً ضرورياً ومهماً، في المرحلة الراهنة وفي المستقبل، لمن ينشد بقاء الإسلام السياسي، خصوصاً أن التغيير والتقدم اللذين تطالب بهما الشعوب العربية اليوم أضحيا في حاجة ماسة إلى انفتاح الخطاب الديني أولاً على قراءات جديدة تحرِّر إرادة الإنسان العربي من أشكال الاستسلام للقدر من أجل أن ينتصر على عقله ويصبح إنساناً حُراً بمعنى الكلمة، ومسؤولاً عن مصيره، الأمر الذي سيفتح كل الآفاق أمام التوافق بين الدين بمختلف مذاهبه وطوائفه وبين الأيديولوجيات الفكرية التنويرية، فيثبت بذلك كلَّ مقومات النظام الديموقراطي للدولة المدنية الحديثة، وفي مقدمه: التسامح، والاعتراف بالحريات العامة، وإلغاء فكرة امتلاك الحقيقة الدينية المطلقة لفئة معينة من دون غيرها، مع احترام نسبية المعرفة لدى الجميع. ولنجاح مثل هذه المصالحة الفكرية الثورية، لا بد من الإلمام بمكر التاريخ، كما يطلق عليه المؤرخ العبقري هيغل، ويعني به تحقيق الأهداف بوسائل مغايرة ومتناقضة. ولكن يُشترط عدم تكرار الأخطاء السياسية السابقة، التي عملت على إخراج الدين من حياة الشعوب العربية وغير العربية المسلمة عبر الدين نفسه، فكانت نتائج ذلك ثورات الشعوب المسلمة، التي قلبت المعادلة وأصبحت تملك الكلمة الفصل في مصير وجودها، لتثبت أن الاوهام هي التي تصنع واقع التاريخ وتجدِّد حركته. * أكاديمية سعودية [email protected]