«الديبلوماسية الخضراء». تلخص الكلمتان منهجاً تبناه الدكتور مصطفى كمال طلبة، وهو اختصاصي بارز في البيئة مصرياً وعربياً. وأفادته الديبلوماسية الخضراء أثناء شغله منصب المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة لأربع دورات متتالية، فأعانته في التوصّل إلى اتّفاقيات دولية، خصوصاً المتصلة بنهر «زامبيزي» في جنوب أفريقيا. والمعلوم أن «زامبيزي» ينبع من زامبيا ويمرّ في ناميبيا وبتسوانا وزيمبابوي وموزامبيق ومالاوي وأنغولا والكونغو الديموقراطية وتنزانيا. هل يمكن الاستفادة من هذه التجربة لحل الخلافات في حوض النيل؟ تجربة نهر «زامبيزي» في حديث مع «الحياة»، رأى طلبة أن قضية نهر النيل أعمق من مجرد مفاوضات سياسية رسمية. واسترجع مسار التوصّل إلى اتّفاقية «زامبيزي» قائلاً: «أثناء فترة عملي في برنامج الأممالمتحدة للبيئة اهتممت باتّفاقيات البحار والأنهار. كان نهر النيل في بالي دائماً. وفي 1984، بدأت العمل، في إطار الأممالمتحدة، على مشكلة «زامبيزي» الذي كان موضع خلاف بين ثماني دول. كان هناك شك لدى زامبيا وزيمبابوي في أن ليسوتو ستأخذ مياهاً من هذا النهر إلى نظام التميّيز العنصري (حينها) في جنوب أفريقيا. أُجرِيَت حزمة من الدراسات المتكاملة على يد فريق متنوّع من الخبراء. وتناولت الدراسات مياه النهر ومصادرها وحجمها وتوزيعها وحاجات الدول المتشاطئة عليه، كما جرى تحديد المشاكل في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية، مع تعريف نقاط الخلاف بدقّة. نُحّيَت السياسة جانباً. وتأكدنا أن مياه النهر تكفي حاجات دول حوضه، في الحاضر والمستقبل، وأن المشكلة تكمن في الإدارة التعاونية المتكاملة واقتناع البلدان بالفوائد المشتركة. وقبل بدء الدراسات، جرى تحديد مصادر تمويلها، كي تُنجَز في الوقت المحدّد لها. جاء التمويل من السويد والنرويج وفنلندا وكندا. وبعدها، بدأنا نتحرك مع رؤساء الدول، مستندين إلى نتائج الدراسات. وبعد عرض صورة متكاملة عن الوضع، سألنا كل رئيس عن قدرة كل دولة منفردة، على مواجهة مشاكل المياه والتنمية، في مقابل قدرتها على التعاون ضمن حلّ إقليمي لهذه المشاكل. اقتنع الجميع بفكرة التعاون الإقليمي. وقبل التوجّه إلى السياسيين ليتحدثوا في مؤتمرات صحافية واجتماعات رسمية، لا بد من مشاورات مُغلقة غير رسمية، مع قيادات جادة وعلمية وممثلة للمجتمعات والدول وقادة رأي. تفيد هذه الاجتماعات التي يشارك فيها خبراء القانون والمياه، في إبراز وجهات النظر المختلفة، من دون حساسيات. ويتيح هذا فرصة للصراحة والمكاشفة والفهم المتبادل، ما يعين على التحرك السليم مع السياسيين. أعانتنا هذه المقاربة في إيجاد حل لمعضلة نهر «زامبيزي»، كما جعلتنا ننجح مع القيادات السياسية». وفي السياق عينه، أوضح طلبة أن الخطوة التالية تمثّلت في وضع خطة عمل لنهر «زامبيزي»، مع مشاريع على مستوى حوض النهر والمجموعات المتشاطئة حوله. وأوضح أن مسألتي الثقة والصدقية، تشكّلان نقطة جوهرية، مشيراً إلى أن وجود جهة محايدة وموثوقة من خارج دول «زامبيزي»، هي «برنامج الأممالمتحدة للبيئة»، أعطى صدقية للحلول المقترحة. وشدّد طلبة على أن الأممالمتحدة أدّت دور الوسيط الإيجابي في التوصّل إلى اتّفاقية نهر «زامبيزي»، ما شجّع دولاً أخرى على طلب مساعدتها في حلّ مشاكل مماثلة، مثل مسألة بحيرة تشاد التي كانت تتناقص بسرعة كبيرة. وأشار إلى أن الأممالمتحدة نجحت في إيجاد حلّ لمشكلة هذه البحيرة. ليس مهمة مستحيلة تناول طلبة الخلافات المستمرة بين دول حوض النيل، موضحاً أنه بدأ التفكير فيها منذ العام 1990. وقال: «بدأنا في الأممالمتحدة، بدعوة سفراء الدول العشر في حوض النيل، للاجتماع في نيروبي. وعقدنا اجتماعات غير رسمية، تلتها اجتماعات لممثلي وزارات الري والمياه. تركت «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» في 1992. وتلقّف «البنك الدولي» هذا الموضوع. وأنجز «مبادرة حوض النيل». ثمة جهود كان يفترض ببرنامج البيئة أن يستكملها، لكنها لم تُنجَز، مثل متابعة المشاورات غير الرسمية حول القضايا المتصلة بمسألة المياه. لنلاحظ أن «البنك الدولي» مُمَوّل، لكن ليس لديه الرؤية، وفي أحيان كثيرة لا يتمتع بالصدقية الكافية. والنتيجة؟ قاد «البنك الدولي» حلول هذه المشكلة، فوصلت إلى وضعها الراهن»! وشدّد طلبة على ضرورة أن تعمل جهة تابعة للأمم المتحدة إلى جانب البنك الدولي، مع تشكيل لجنة تعمل أيضاً كوسيط إيجابي ومحايد في الآن نفسه. واقترح مشاركة منظمات مثل «اليونسكو» و»برنامج الأممالمتحدة للبيئة» و»منظمة الأممالمتحدة للتغذية والزراعة- فاو». وكذلك طالب بتحرك المجتمع المدني في هذه الدول، مع إطلاق حوار مجتمعي شامل بينها أيضاً. وأبدى طلبة استعداده للمشاركة في لجنة علمية تكون مقبولة من دول حوض النيل، للبدء في حوارات صريحة وعلمية تقارب جذور الخلاف، وتضع تصوّرات عن طُرق تجاوزه. في طريقة مُشابهة، دعا طلبة إلى ضرورة تطوير خطط ترشيد استهلاك المياه، خصوصاً في الزراعة التي تستهلك أكثر من 80 في المئة من المياه في مصر. ورأى أن استمرار الخلاف، خصوصاً توقيع دول المنابع منفردة على اتّفاقية عن مياه النيل، من دون مصر والسودان، لا يعني انسداد باب الحلول. وطالب باستمرار الحوار غير الرسمي، وعدم التركيز على موضوع المياه حصرياً، وتوسيع العمل التعاوني بين دول حوض النيل ليشمل الاقتصاد والثقافة والاجتماع. وأشار إلى مسؤولية مصر والسودان في تقديم بدائل إلى هذه الدول الفقيرة، مع البحث عن مصادر للتمويل، شرط ألا تكون قروضاً من البنك الدولي. وقال:«قصرنا طويلاً في حق الدول الأفريقية». وأخيراً، رفض طلبة التحكيم الدولي في هذا الموضوع، إذ رأى أنه يتعارض مع الاستمرار في روح التعاون والحوار.