هل تشغل المعاجم والقواميس اهتمام دور النشر والمكتبات بأنواعها؟ إذا أُلقيَتْ نظرة سريعة على المكتبات في وسط القاهرة، فالأرجح أن تكون الإجابة: «لا»، بل «ألف لا»! وفي المقلب الآخر من الصورة عينها، أدى الاختفاء التدريجي للمعاجم والقواميس إلى تزايد الحاجة إلى المُدقّق اللغوي. المفارقة أن المدقّق بات يعتمد في عمله على محرك البحث «غوغل»، ويسير على غرار ذلك باحثون ومترجمون وأدباء وسواهم. استناداً إلى تلك المعطيات، طرحت «الحياة» سؤالاً على عدد من الكُتّاب، والناشرين وأصحاب المكتبات، هو: هل قضى «غوغل» على المُعجَم؟ وفي ردّه على السؤال، أفاد مصدر في شركة «المنهل» للنشر الإلكتروني، بأنّ التطوّر التكنولوجي ساهم بقدرٍ كبير في انصراف القارئ عن الكتاب الورقي، وبما في ذلك المعاجم والقواميس. وأضاف: «بات الاقبال على تصفّح المُعجَم الإلكتروني ليس كبيراً، ولا تمكن مقارنته بما يحدث مع الرواية. وعلى أي حال، فإن إتاحة المعاجم إلكترونيّاً قضت تماماً على المُعجَم الورقي، وخصوصاً أنّ الباحثين لا يملكون وقتاً كافيّاً للبحث عن كلمة في كتاب ما، في حين يستطيعون تحقيق ذلك بسرعة عبر الإنترنت، وبالتالي تخافتت دواعي اقتناء مُعجَم ورقي». وأشار المصدر أيضاً إلى وجود مشكلة تتعلّق بضرورة تحديث المعاجِم دورياً، لافتاً إلى أن ذلك ليس مهمّة شركات النشر الإلكتروني، بل تقع على عاتق الباحثين والمتخصصين الذين يتوجّب عليهم إدراك أهمية ذلك. وهناك كلمات كثيرة تُستحدث في اللغة العربيّة على غرار اللغات كلها، وهو أمر يفترض أن يتصدى له المنشغلون باللغة والمتخصصون فيها. كما يفيد ذلك في تمكين تقنيات النشر الإلكتروني من إدراج الكلمات المستجدّة في قواعد بياناتها. وفي نهاية المطاف، ليست الشركات ناشراً يتّخذ قراراً بنشر كتاب أو مُعجَم، لكنها وسيط بين الناشر الورقي وجمهور الإنترنت. وتابع: «في أغلب الأوقات، ندأب على الاتصال بالناشرين كي نعرض عليهم أن يتخذوا خطوات في ذلك الاتجاه، لتكون هناك تحديثات سنويّة لقواعد بياناتنا تشمل الكلمات الجديدة في اللغة العربيّة... ونبيّن لهم أيضاً أن ذلك يفيد في جعل العربيّة مواكبة لنظيراتها من اللغات العالميّة التي يُحدِثْ بعضها تحديثات أكثر من مرّة سنويّاً... ليس الأمر أنّ اللغة العربيّة أقل من مثيلاتها، لكن الدول الأجنبية تهتم بلغاتها أكثر من الدول العربيّة، بل تسعى باستمرار إلى تطويرها، وذلك هو الفارق الأساسي بيننا وبينهم». سهولة التعدّد وصعوبة تغيير العادات كذلك أكّد المصدر عينه أنّ شركة «المنهل» للنشر الإلكتروني ترحّب بنشر المعاجم، لكن المشكلة تكمن في أنّ سوقها ليست كبيرة ونطاقها ضيّق للغاية. وتاليّاً، ليس من فارق جوهري بين معاجم الورق وال «ويب»، لكن تبقى زيارات المعاجم وتصفّحها إلكترونيّاً أكثر انتشاراً من نظيرتها الورقيّة، التي يرى أنها في طريقها إلى الفناء. واستهل القاص والمترجم أحمد الخميسي إجابته عن السؤال بقوله إن استخدامها عبر الإنترنت يعتبر جزءاً من انتشار الثقافة الرقميّة التي تجعل تخزين الكتب إلكترونيّاً أسهل بكثير مِن تخزينها في صورتها الورقية. وكذلك تسهُل قراءة الكتاب الرقمي بالمقارنة مع الورقي، خصوصاً مع وجود تقنيّات التحكم في حجم الخط، وكمية الضوء الواقعة على الصفحات، وتغيير شكل الحروف، والتحكّم في المسافات بين السطور والمقاطع وغيرها. وتابع: «تسمح لي الإنترنت بأن أفتح أكثر مِن مُعجَم في الوقت نفسه. اتنقّل بسهولة بين معاجم عن معاني الكلمات، وشرح المرادفات وتقديم الكلمة ذاتها في معاجم عدة تشمل «لسان العرب» وسواه... أجدني أغلق صفحة مُعجَم وأفتح أخرى بضغطة واحدة. ومن دون شك، فإن استخدام المعاجم على الإنترنت أكثر شيء يظهر أفضليّة الثقافة الرقميّة. وكذلك ألاحظ أنّ الإلكتروني أكثر دقة من الورق المطبوع. وهناك معاجم لا توجد في المكتبات، لكني أجدها على الإنترنت بسهولة كمعجم «قطرب» الرقمي المختص بتصريف الأفعال العربيّة وغيره. ويختلف الموضوع تماماً إذا تطرقنا إلى استخدام المعاجم في الترجمة، لأنها لا تكفي وحدها، بل تحتاج إلى معايشة كاملة للثقافة التي نترجم عنها أو إليها... وفي نهاية المطاف، لم يعد هناك مهرب من الثقافة الرقميّة». الورق يقاوم ما يتبخر من الرأس! كذلك رأى القاص والروائي هاني عبدالمريد أن الوضع تبدّل في ما يخص استخدام المعاجم، كما أنّ التعامل مع الكتابة واللغة لم يعد مبنياً على أساس ما يكون الحال ورقيّا، بل ربما صار اللجوء إلى المُعجَم يحدث للتأكّد من صحة اشتقاق الكلمات. وأوضح صاحب رواية «كيرياليسون»: «أعرف أننا تربينا على القول بأنّه من أساسيات المكتبة المُعجَم والأطلس. وإذا افترضنا أن معظم الكتاب يكتبون الآن مباشرة على الكومبيوتر، وأن لديهم خدمة الإنترنت على أجهزتهم، فما المانع من اتّباع الوسيلة الأسهل والأقرب وهي القواميس المتاحة في الفضاء الافتراضي، كقاموس المعاني. إذا كان الرقمي كافياً وجعلك تصل إلى المطلوب بأقل مجهود، فما المانع من الركون إليه»؟ في السياق عينه، أشار الكاتب عمرو العادلي إلى أنّه بات «من أنصار أن يكون القاموس بعيداً من يد الكاتب... إذا جلس في المكتب يُفضّل أن يكون القاموس في الحديقة، لأن وجود القاموس سواء إلكترونيّاً أو ورقيّاً لا يبعث الروح في النص الأدبي في شكل يُرضي الكاتب، لكن الحاجة إليه تكون وفق الطلب. كان جيمس جويس يعتمد على القاموس في شكل أساسي. وهناك بعض الكتّاب الذين لا يفضلون ذلك كثيراً. أنا أميل إلى استخدم القاموس الورقي أحياناً، بل أفضله على الإلكتروني، لأنه يكون كريماً معي أكثر. وعندما أبحث عن كلمة أجد نفسي أتصفّح وأبحث عن كلمات أُخرى، فتزيد المحصّلة اللغوية في جلسة واحدة». وتابع صاحب رواية «الزيارة»: «الأرجح أنّ الكلمات تتبخّر من الرأس سريعاً ولا يبقى في الذهن إلا المعنى. ويُعالج القاموس الورقي تلك المشكلة، مع ملاحظة أنّ النص الأدبي تحديداً في احتياج دائم إلى تجديد المعنى، وإلا وقع في فخ الكليشيهات». مصطلحات العلوم تتجدّد ومتابعتها إلكترونيّاً أسهل في تناوله مسألة المعجم حاضراً، أكّد مصطفى الفرماوي، مدير تزويد المكتبات في دار «الشروق» القاهريّة، أنّ التطوّر التكنولوجي لعب دوراً في ما يمكن أن يسمّى اختفاء المعاجم أمام «غوغل» الذي يتعامل معه الشباب حاضراً من دون التفكير في بديل ورقي. ورأى الفرماوي أنّ المعاجم العلميّة لم يعد لها استخدام كبير كما كان يحدث من قبل، مشيراً إلى وجود حاجة إلى تطوير ذلك النوع من المعاجم وإضافة ما يُستجد من مصطلحات علميّة. وقال: «عندما التحق ابني بكلية الهندسة، حرصت على أن أشتري له أهم المعاجم المختصّة، لكنه لم يلتفت إليها، ولا تزال كما هي من دون أن تُمَس... في المقابل، أراه يعتمد كليّاً على «غوغل» فيستمر في الاستغناء عن تلك المعاجم». وعاد الفرماوي إلى حقبة التسعينات من القرن العشرين، مذكّراً بأن سنواتها شملت وجود طلب كثيف على المعاجم الورقية، ووفق لغة التُجّار فإنّها «كانت تبيع». وفي المقابل، لا تزال المعاجم موجودة في مكتبات «الشروق»، لكن مبيعاتها إما ضعيفة أو تكاد تنعدم. وتابع: «كان الناس ينتظرون قاموس «المورد» سنويّاً، ويهتمون بطبعته الجديدة والكلمات التي أُضيفَت إليها «. في نفس مُشابِه، أشار وائل الملا، صاحب دار «مصر العربيّة» ومكتبة «أطياف»، إلى أنه لا ينشر المعاجم! «لم يعد لدينا قارئ يهتم بالبحث عن معاني الكلمات، فيذهب إلى المكتبة محاولاً اقتناء مُعجَم ما... أصبح «غوغل» حلاً بديلاً، بل إنّه يوفر وقتاً وجهداً ومالاً». وتحدث الملا عن بعض رسائل الماجيستير والدكتوراه التي وصلت إليه، وكانت حافلة بأخطاء لغوية. وسأل: «إذا كان ذلك هو تصرف الباحث مع اللغة، فماذا ننتظر من قارئ عادي؟ إنّ عدم الاهتمام بالمعاجم وعدم حرص الناشرين على وجودها في المكتبات لهما ما يبررهما. ومن الصعب أن أهتم بتوزيع منتج لن أكسب منه شيئاً. وينطبق ذلك على الشِعر. أنا أنظر إليه باعتباره أفضل الفنون الأدبيّة وأكثرها متعة، ومع ذلك فإن نشر الشعر صعب، ونادراً ما تجد ناشراً يقبل على المغامرة بنشر ديوان لشاعر».