الدقة السويسرية لا تتجلى فقط في صناعة الساعات، إذ كان رماة الجيش السويسري يحظون بشهرة عالمية. ويحكى أن قائداً أوروبياً كبيراً زار سويسرا، وخلال استعراضه فرقة من رماة جيشها، لفته جندي هزيل فخاطبه قائلاً: نملك جيشاً عديده ضعفا عديد جيشكم، فإذا هاجمناكم ماذا تفعلون؟ أجاب الجندي السويسري: كلٌ منا يطلق رصاصتين... رمز للدقة والتنظيم والنظافة. بلد صناعة الساعات الأشهر والأغلى في العالم. مهد المصارف الشهيرة المعروفة بسريتها (على رغم ما حدث بعد أزمة المال العالمية من اختراق لها بطلب من الولاياتالمتحدة)! مصنع الشوكولا على أنواعها. وأجبان «غرويير» التي أعطت اسمها لأنواع أخرى من بلدان أخرى. ملاذ الهاربين من ضوضاء المدن والفوضى وتلوث البر والبحر والجو. ثلوج ومراعٍ وينابيع، ولا خوف من جفاف. هذا بعضٌ مما تعرف به سويسرا إذا بقينا بعيدين عن التفاصيل. أو هذا ما يشاع من معلومات سياحية، تبقى، على رغم صحتها، نقطة في بحر ما تقدمه هذه الجوهرة الصغيرة لمن جدّ فوَجد. خصوصاً جنيف، محطتنا مع «طيران الإمارات»، ومنطقة البحيرة التي ينسب اسمها الى المدينة، ثم يتغير في منطقة مدينة لوزان ليصبح «بحيرة ليمان». تقع جنيف على البحيرة وتتجمع حولها، لتبقى مطلة عليها كيفما اتجهنا. هذه المدينة عابقة برائحة التاريخ على رغم صغر مساحتها. حيّها القديم شاهد على ماضيها. أهلها يحبون الأخضر. أشجار تظلل الطرق والشوارع والمتنزهات. هنا لا أحد يقطعها ويستخدم خشبها للتدفئة. فنادق فخمة على امتداد جادة الرون. لا عجب في أن تكون جنيف أختيرت مقراً لأكثر من 300 منظمة دولية، يتبع جزء كبير منها للأمم المتحدة (مع أن السبب الأساس ليس جمال المدينة فقط). ولافت في ساحة الأمم، ذلك الكرسي الضخم المقطوع الرِجل، يشهد للمواقف الإنسانية ضد الألغام، تحيط به منظمات دولية عملت على تغيير موقعه ولم تفلح! البحيرة بحر من الرونق. مراكب تنزلق عليها بخفر، وكأنها تخشى أن تعكر هدوءها. أزرق نقي لا تخالطه شائبة. وددت أن أرى عقب سيجارة في الماء، انتقاماً لواقع آخر في أصقاع أخرى. أن ألقي بنفسي في هذه المياه وأشرب، على رغم تحذيرات من برودتها التي يجددها ذوبان الثلوج على الجبال المجاورة. منطقة البحيرة لا تشبه غيرها من المناطق الأوروبية. إنه عالم آخر. يطل عليه في البعيد، إذا تكرّم الضباب، الجبل الأبيض، (كدت أقول جبل الشيخ)، لحظات قد تطول، ثم يختفي. إذا ابتعدت عن جنيف في اتجاه لوزان، تطالعك جمالات أخرى أقرب الى رائحة الريف والقرى. كوبيه، نيون، رول ومورج، قبل أن تبلغ لوزان. وإذا توقفت في نيون، لا بد أن ترى شبهاً بمناطق بعيدة في شرقنا القديم. هذه المستعمرة الرومانية المهمة في قلب المنطقة الناطقة بالفرنسية، حافظت على آثار ثمينة من تلك الحقبة، في بعض جهاتها وضمن متحفها. وأبعد من نيون، قرى صغيرة حمت قلاعاً وقصوراً من القرون الوسطى، منها شيون حيث القلعة التي اشتهرت بحماية دوقية سافوا. في لوزان، العاصمة الأولمبية كما يسميها السويسريون، ينتصب المتحف الأولمبي راسماً عبر معارض ونشاطات مختلفة تاريخ حركة تمخض عنها أكبر حدث رياضي معروف. من لوزان الى فيفاي، ثم مونتروه، مدينة المهرجانات، والشهيرة باستعراضات الجاز، حيث تناوب مشاهير هذه الموسيقى من مختلف البلدان. لكن مونتروه تضم أيضاً أحد أهم المعالم في العصر الحديث. سياحة مكلفة لكن تحوطها سريّة تامة. ليس في متناول الجميع الحصول على خدمات « كلينيك دو لا بريري». هذا المركز الطبي بنى شهرته على الجراحات التجميلية و «إعادة الشباب». مستحضرات تجميلية على أنواعها. وهناك من يؤكد أنها «تعمل». مشاهير كثر مروا من هنا، ولم تتعرف اليهم المرآة لدى خروجهم. الأسعار خيالية والنتائج حقيقية. تحولت هذه العيادة معلماً سياحياً، ومقصداً لأثرياء العالم. 100 قلعة تزين هذه المنطقة، وأكثر من 80 متحفاً. وعلى الهضاب التي تُسيج طريق لوزان – مونتروه، كروم من العنب تربط بينها طرق للمشاة، كما بين جنيف ولوزان. لكن الحلم الأكبر، من وجهة نظرنا، نترك حكاياته لمناسبة أخرى. فخلف هذا كله، في الأفق القريب، جبال خلفها جبال بينها وديان. من الألب الى الجورا. ثلوج ومراكز تزلج، ومراعٍ كيفما اتجهت، ورعيان يسوقون قطعانهم إليها، وغابات وطرقات للنزهات. أجمل الرياضات. عرس الطبيعة على بعد رفة جناح من الغيوم.