هاني نقشبندي (1963) روائي سعودي مقيم في دبي، صدرت له أخيراً رواية «الخطيب» التي تفضح المتاجرين بالدين وتحذر من غياب الوعي الجمعي، وسبق أن أصدر روايات عدة، منها «اختلاس»، «ليلة واحدة في دبي»، «سلام»، «نصف مواطن محترم»، «طبطاب الجنة». هو خريج جامعة الملك عبدالعزيز في جدة في اختصاص «العلاقات الدولية»، ويمارس منذ عام 1984 الإعلام، فعمل في صحف عدة، وترأس تحرير مجلتي «سيدتي» و «المجلة»، وساهم في تأسيس مجلة «الرجل»، وتولى منصب نائب رئيس تحرير جريدة «الشرق الأوسط»، كما قدم برنامج «حوار هاني» لتلفزيون دبي. صدرت روايته الأولى «اختلاس» في بيروت عام 2007 وحققت مبيعات عالية رغم منعها في بعض الدول العربية. هنا حوار معه: روايتك الأخيرة تهاجم المتاجرة بالدين، وتقوم على تكامل التفاعل بين قوة القول وقوة الإنصات، فهل الإنصات السلبي منح مساحة سيكولوجية للسارد من أجل التطهير والتنفيس؟ - المتاجرون بالدين باتوا أكثر من المتاجرين في الخبز. وهؤلاء يعلمون تأثير الدين في النفوس. لذلك، هم يستخدمونه كأنه مخدر لتوجيه العقول أو إصابتها بغيبوبة تجاه قضية ما لمصلحة قضية أخرى. وفي هذه الرواية، إن قوة الخطيب على المنبر جعلته يسيطر على فضاء المسجد، فأصبح هنا ما نقول عنه الإنصات السلبي، أي الإنصات الذي يمتص كالإسفنجة، كل ما يسمع، من دون تمحيص أو حتى إرادة عابرة. وإذا أضفنا إلى قوة الأسلوب عبارات تكفير الآخر، وتأكيد أننا أمة الحق وحدنا، فنحن لا نتحدث عن خطيب يزرع في الناس المحبة والتسامح، بل نتحدث عن صانع أيتام وأرامل. الخطأ هنا ليس من الخطيب، بقدر ما هو من استسلام المصلين لكل ما يقوله. أما هل هو تنفيس وتطهير للسارد الذي هو أنا؟ فسأقول ربما، لكني لست خطيباً ولا رجل دين. أنا أنفس عن غضب لرؤية ما يحدث وعجزي عن تغييره. الرواية ترصد نبض القدرات التعبيرية لدى الأشخاص ولدى المجتمعات، فهل هذا الطرح يناسب المجتمعات المتخلفة؟ - لن أقول المجتمعات المتخلفة، بل أقول المجتمعات القدرية التي تؤمن بأنها مسيّرة ولا خيار لها سوى القبول بما يقول رجل الدين. الخطاب السياسي يتحدث عن أهداف دنيوية. أما الخطب الدينية فتذهب إلى ما وراء المستقبل لتتحدث عن الغيبيات والعالم الآخر، كأنها تدعو صراحة إلى الموت ونبذ الدنيا. هذا الخطاب يناسب الشعوب الفقيرة والمحرومة، لأنه يخدرها، ويهدئ ثورتها. ووضع كل هذه الصورة ضمن إطار جذاب ومؤثر، ستكون له نتيجة أكبر بطبيعة الحال من الخطب الباردة. هل يتعلق الأمر بالمرجعيات الأخلاقية والثقافية والفكرية التي تتشكل على أساسها خصوصية الذات الفردية والجماعية؟ - الخطب التي يقصد منها توجيه الجماعة إلى ما يريده الفرد الواحد هي عمل غير أخلاقي. وللأسف فإن كثراً من أصحاب الخطابات المؤثرة يفتقرون إلى أي بعد أخلاقي، فهم يسخّرون قوتهم إما لمصالحهم الشخصية الذاتية، أو مصلحة السلطة وولي الأمر، وهذا أيضاً يصب في مصلحتهم الشخصية. الأخلاق هي أن تحب الآخرين غاية في المحبة ذاتها لا لشيء آخر. يجب ألا نكذب؛ ليس لأن الكذب حرام، بل لأنه يؤذي إنساناً آخر. وإذا كنت تتحدث عن بدهية في السلوك الإنساني، فسأقول أن الأخلاق هي بدهية يفترض أن تكون، بل هي غريزة، لكن غياب الوعي الأسري والمجتمعي، بل وحتى غياب القانون في معظم الأحيان، يجرداننا من الأخلاق الغريزية، لنتحول وحوشاً حقيقية، سواء كنا خطباء على المنابر، أو متلقين. هل حضور الوعي بمسؤولية القول، بأهدافه وتداعياته، هو المؤشر الموضوعي إلى حضور العقل أو غيابه؟ - الوعي يكاد يكون هشاً لدى المتلقين الخطب في المساجد. ربما يكون الخطيب واعياً، لكن المتلقين مجرد أوعية يصب فيها الخطيب ما شاء من كلمات وأفكار. الوعي، أو العقل، وإعمال العقل، لن تجعل من الخطيب صاحب سلطة مهما كان مؤثراً. لأنه سيصطدم بمنطق ربما كان أكثر نضجاً من الخطيب نفسه. نعم، هناك خطباء يملكون درجة من الوعي، وإيماناً بالأخلاق. لكن، إن حادوا عن الخط العام الذي تريده المؤسسة السياسية، أو ما اعتاد الناس على سماعه، فربما أصبحوا مرفوضين. تخيل خطيباً يحدث الناس عن انعدام الأخلاق في حرب ما نشنها على خصم لنا. سنتهمه جميعاً بالخيانة. هل تعتقد أن التيارات السلفية تطعن في الهوية القومية العربية؟ - التيارات السلفية تطعن في كل من لا يتفق وهواها. إن اتسقت مصلحتها مع القومية العربية أيَّدتها. وإن اختلفت لعنتها وكفَّرتها. والناس يتحركون مع البوصلة التي يحركها الخطيب في آخر المطاف. وللمناسبة، عندما أقول الخطيب لا أعني به إمام المسجد فقط، بل أعني به الخطاب الديني ككل. كانت مجموعة من الشيوخ المنتمين إلى السلفية تكفر العلمانية. وقالت عنها ما لم يقله مالك في الخمر. اليوم، وبقدرة قادر، أصبح بعض هؤلاء الشيوخ يرى العلمانية هي الحل. وإن سألته عن هذا التناقض وجدت الجواب حاضراً: درء للفتنة، أو الضرورات تبيح المحظورات. حوادث الرواية تدور في مكان وزمان غير معينين... لماذا؟ - لأنه من الظلم أن أجعلها ترمز إلى مكان واحد. لكل قارئ أن يقترح المكان والزمان اللذين يناسبانه. قد يرى البعض أنها تلامس المجتمع السعودي، أو المصري، أو بعض بلدان أفريقيا الإسلامية. بل ذهب أحدهم إلى القول أنها تلامس الخطاب الديني في المراكز الإسلامية الأوروبية. ربما كل ذلك صحيح. نجحت في الموازنة بين اللغة السردية والمواقف التي تحكيها... كيف حققت هذه المعادلة؟ - من بين سبعة أعمال لي، كانت كتابة رواية «الخطيب» هي الأسهل. ذلك أني كنت أنقل فقط ما أراه وأعيشه في الشارع العربي. اللغة السردية لم تكن صعبة أو سهلة، بل كانت مباشرة. ولعل هذا ما يجعلك ترى أنها حققت معادلة التوازن بين النص والموقف، أو المضمون. روايتك «سلام» رواية تاريخية... هل تعتقد أن الكتابة التاريخية تصلح لأن تكون بديلاً من هزائم الواقع؟ - قرأتُ لكاتب أميركي قوله أن العالم العربي يكاد يكون وحده الذي يتمنى العودة إلى الماضي. أعتقد أن الكتابة التاريخية تشبع حنيناً إلى الانتصارات القديمة. هذا إن كانت هناك انتصارات. لكنني أذكرك بأن رواية «سلام» لم تكن تاريخية قط، بل هي تتحدث عن الآن، وإن اقتبست بعض رموزها من الماضي. روايتك «اختلاس» منحت القراء القدرة على الإطلالة على خبايا الجسد والاستمتاع الأليم بنزيفها الأبدي... في رأيك، هل الألم هو منبع طاقة القول لكتابة إبداعية شاهدة على الوجع بمعناه الذاتي والوجودي؟ - أعتقد أن قوة أي كاتب تأتي من غزارة تخيله وقوة نصه؛ لا مِن واقع عاشه. الذين كتبوا عن البؤس لم يكونوا بؤساء بالضرورة. فيكتور هوغو الذي كتب رواية «البؤساء» كان ثرياً وسعيداً في حياته. نجيب محفوظ عندما كتب ثلاثيته الشهيرة، لم يكن رجلاً لعوباً ومنفصم الشخصية كبطل عمله. أنا لستُ رجلاً ثرياً؛ لكنني لست فقيراً أيضاً. سبق أن سألني أحدهم: كيف تستطيع الكتابة وأنت لا تعرف المعاناة؟ فأجبتُه: وهل عليَّ أن أكون فقيراً تعيساً كي أصبح كاتباً؟ هل الكتابة إضاءة لعتمات الذات والواقع؟ - أجمل ما في الكتابة أنك تصنع عالماً آخر بيدك. تصنع أبطالك وتحركهم كيفما تشاء. تصنع مدناً وحواضر. تصنع قصة ربما لم تحدث يوماً، وتجعل من يقرأها يسأل: متى حدثت وأين؟ ليس في نفسي عتمة أرجو الضياء ليبددها بشفاعة القلم. الكتابة عشق وطريقة حياة. أعتقد أن الكتابة تجعل من الحزين سعيداً، ومن السعيد أكثر سعادة. سأزيد شيئاً وأقول أن من الأفضل أن تأتي الكتابة وهي تحمل رسالة ما. فطالما أن للكاتب مَن يقرأ له، ويهتم برأيه، فعليه أن يقدم رسالة أخلاقية، يساهم من خلالها في بناء مجتمع صالح. هذا ما يدفعني إلى القول أن معظم الروايات العربية، ولعل رواياتي مثلها أيضاً، لا تنشد الرسالة الأخلاقية بقدر ما تنشد الإثارة أحياناً، سواء تعمدنا ذلك أم لم نتعمده. هذا خطأ. نحن يجب ألا نكتب ما يرضي الناس، بل علينا أن نكتب ما يرضينا نحن ككتّاب. لذلك، أقول أن الكاتب الناجح هو الكاتب الأناني الذي يهمه إرضاء نفسه من خلال ما يكتب، لا إرضاء الناس وإثارة فضولهم. في رأيك؛ كيف نعيد الثقة إلى الذات العربية؟ - بالعلم. فقط بالعلم. فكل انكساراتنا وانهزاماتنا العسكرية والسياسية سببها فقرنا العلمي. إنتاجنا الفكري على مستوى العالم يكاد يكون الأدنى. مساهماتنا العلمية تكاد تكون معدومة. انس مساهمة أو اثنتين، أنا أتحدث عمّا هو أكثر. قرأتُ مرة أن الإنتاج الكوري في المجال العلمي فاقَ في السنوات العشرين الأخيرة الإنتاج العلمي للعالم العربي في ثلاثمئة عام. لماذا تخاصمك الجوائز العربية؟ - أنا مَن يخاصم الجوائز. كثيراً ما يطلب ناشري، أي دار «الساقي» أن أترشح لجائزة هنا أو هناك، قأرفض؛ لإيماني بأن جوائز الأدب هي إهانة للأدب، لثلاثة أسباب: أولاً، إن الجائزة الأدبية تساهم في شهرة كتاب واحد فاز بها، وتطمس عشرات الكتب الأخرى. إنها تشبه جرساً يلوح به أحدهم ويصيح منادياً: هذا الكتاب وحده يستحق القراءة. ثانياً، تصدر كل عام عشرات، إن لم يكن مئات الأعمال الروائية، فهل استطاعت لجنة الجوائز، أن تقرأ هذه الأعمال لتقرر مَن يستحق الفوز ومَن لا يستحق؟ ثم إن لكل إنسان ذائقته، فما يعجبني قد لا يعجبك. ثالثاً: إن الجوائز الأدبية تشوه أعمال كتّاب كثر باتوا أكثر حرصاً على الحصول عليها مِن حرصهم على قيمة العمل الأدبي نفسه. وسأختتم بعبارة قالها برنارد شو يوماً: «قد أغفر لنوبل اختراعه الديناميت، لكنني لن أغفر له أبداً اختراع جائزة للأدب».