يُعد أمير تاج السر، أحد أبرز وجوه المشهد الأدبي السوداني، وصلت روايته «منتجع الساحرات»، إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لهذا العام، كما صدرت له حديثاً رواية «زهور تأكلها النار». يعتقد تاج السر بضرورة أن تكون لكل كاتب بصمة خاصة تميزه؛ ويجد نفسه غير مرتاح لانتهاك أبجديات الكتابة الروائية على أيدي دخلاء على هذا الجنس الأدبي المنتعش كماً وكيفاً في السنوات الأخيرة، ويصر على أن الكتابة هي «عمل خارق». هو طبيب نالت أعماله الروائية اهتماماً كبيراً، انعكس خصوصاً في ترجمة معظمها إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وغيرها من اللغات. وصلت روايته «صائد اليرقات» إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية في عام 2011، كما حصل على جائزة كتارا. ولد في شمال السودان في عام 1960، وعاش في مصر بين عامي 1980 و1987، وخلال ذلك تخرج في كلية الطب في جامعة طنطا، وهو يعمل حالياً طبيباً في العاصمة القطرية الدوحة. ومن رواياته «مهر الصياح»، «زحف النمل»، «توترات القبطي»، «العطر الفرنسي»، «إيبولا 76»، «أرض السودان... الحلو والمر». هنا حوار معه: في «منتجع الساحرات» هربت «إببا» من ويلات الحرب في إرتريا إلى السودان فصدمها الفقر والجوع والتهميش... هل هناك إشارة ما إلى تساوي مأساة الفقر بالحرب؟ -الفقر داء حادث في العالم الثالث، هذا شيء معروف، وأسباب حدوثه معروفة أيضاً، ومنها الفساد المنتشر هنا وهناك، وعدم المساواة في تقدير الشعوب من قبل حكامها. الناس على رغم ذلك يعيشون بطريقة أو أخرى، يعيشون بما يجدونه وسط فقرهم، وحين تأتي الحرب تتفاقم الأمور ويجتمع الفقر بالتشرد. الحرب إذن أداة تشرد عظيمة، وبالتالي إفقار أعظم. الناس تترك استقرارها حتى لو كان محدوداً وتسعى إلى أماكن آمنة، أوطان بديلة، ولكن هذا أيضاً صعب، وضرب من المغامرة. «منتجع الساحرات»؛ رواية عن مأساة اللاجئين والهوية والوطن وواقع المرأة في العالم العربي، والمجتمع الذكوري، والحب، والفقر، والحرب. هل هذه القضايا كانت في ذهنك عند كتابة هذا العمل؟ - كانت في ذهني صورة واضحة لفتاة لاجئة شاهدتها مطعونة بخنجر في عنبر للحوادث في مستشفى ساحلي منذ سنوات بعيدة. ولأن هذه الفتاة مشردة، جاءت تلك المفردات الأخرى، لتُكتب في النص. إنه نص عن تلك المآسي كلها. صرحت بأن «منتجع الساحرات» من أهم أعمالك الأدبية بسبب وصولها إلى قائمتي جائزتي الشيخ زايد، والبوكر العربية، فهل ترى أن الجوائز هي التي تحدد أهمية العمل الأدبي؟ - بالتأكيد الجوائز لا تحدد أهمية النص من عدم أهميته، هناك نصوص عظيمة لم تنل أي جوائز، وربما لم تجد صدى إعلامياً حتى، لكني ذكرت ذلك عن «منتجع الساحرات» لشعوري الشخصي بأهميتها. «زهور تأكلها النار»، رمزية عنوانها جاءت من وشم مرسوم على جسد شخصية «ماريكار»؛ فهل هو دلالة أيضاً على أن الحضارة العربية والقيم الأخلاقية يأكلها الإرهاب حالياً؟ - ذكَرَت الراوية أنه وشم الخسارات، خسارة الأريج والرونق، وهو ما حدث بسبب الغزو الإرهابي لمدينة السور بعد زمن من الوشم على جسد الفتاة، الأريج هو رفاهية المدينة، والرونق، هو تماسكها، هذا ما أراه، ولو طبقنا تلك المعطيات على الآن، لوجدنا خسارة في الأريج والرونق في أماكن كثيرة جداً، هو وشم نبوءة كما ترين، وهو واقع الآن كما يعرف الجميع. أحياناً تبدو كتابة النصوص عملاً خارقاً، فيه الكثير من الحقائق اللاحقة. في «زهور تأكلها النار»؛ لم يتبين للقارئ هل «المُتقي» شخصية موجودة، أم أنها من اختراع الإرهابيين لتكون فزَّاعة، فهل كان ذلك إسقاطاً على الواقع لجهة استخدام المتطرفين للدين وارتكابهم فظائع باسمه، في حين أنهم لا يتبعون سوى الوهم؟ - ممكن طبعاً. ممكن في النص وخارجه، أي في الواقع، أن يكون الأمر قائماً على مصالح خاصة، لا علاقة لها بالطرح الديني العادل والشفَّاف، فالدين كما هو معروف لا يدعو إلى دك المدن الآمنة وتحويلها إلى حطام، ولا يدعو إلى قتل الناس بغير حق، ولا يدعو إلى سبي النساء الحرائر، وتحويلهن إلى متكأ للغرائز، بل على العكس دعا إلى الخير والتعمير، والتأمل، وإعمال العقل إلى جانب الالتزام بما أُمر به البشر من طاعة لله سبحانه وتعالى. هناك أفكار دخيلة، أفكار وهمية ينساق إليها البعض بلا وعي، فليس كل من آمن بتلك الأفكار واتبعها، يفهمها جيداً، ولكن لأنها غُلفت بالدين، وكانوا متدينين، اتبعوها، إنها معضلة كبرى ولا حل لها كما أعتقد. نهاية «زهور تأكلها النار» بعيدة من التفاؤل بإمكان إنهاء سيطرة التطرف والطائفية والإرهاب، في المستقبل، فكيف يمكن الخلاص مما يعانيه العالم العربي الآن من طائفية وتمزق وتشتت؟ - لن أتحدث عن الأمل؛ لأنه لم يعد هناك أمل، كما يبدو، ولن أقول بكل براءة، أن علينا مراقبة أبنائنا، وغرس التربية الصالحة فيهم، فكلها إجراءات باتت غير مجدية، والإرهاب سيتبعها لا محالة. هناك حالات كثيرة لإرهابيين، تربوا في الغرب، حيث الأفكار أكثر تفتحاً من أفكارنا ومع ذلك تحولوا إلى جلادين. أظن أنه تكوين جيني، شيء أشبه بالعصاب أو انفصام الشخصية، لا أدري بالضبط. هل ترى ضرورة أن يكون للكاتب موقف سياسي من الحوادث الدائرة في محيطه أو في العالم وأن يبلور موقفه في أعماله؟ - لا بد للكاتب من موقف أخلاقي أولاً، فلا يسكت عن الظلم والجور، والانهيار في ما يحيط به، هذا الموقف ليس بالضرورة خطابياً ومباشراً يصرخ به في كل زاوية، ولكن داخل نصوصه، الشخوص التي يبتكرها تتحدث عن الموقف، تؤيد أو تعارض أو تستشهد، كل ذلك داخل النصوص، وأنا أفضله، ولذلك أعاني كثيراً من المتشنجين الذين لا يقرأون ما أكتب، ويخاطبونني بما لا يليق. وحقيقة منذ بدأت الكتابة وأنا أقول آرائي كلها داخل نصوصي. حتى الآراء السياسية موجودة، وآراء ضد كثير من المعتقدات الخاطئة في المجتمع. هل يمكن القول إن تمزق العالم العربي، قد يؤسس مرحلة جديدة من أدب الاغتراب؟ - بالتأكيد. بدأت ملامح هذا الأدب تتحقق. يوجد أدب تمزقي يحتفي بالأوطان القديمة ويحن إليها. فيه أناشيد تذكرية حتى للتفاهات الصغيرة في الأزمنة التي تسمى جميلة، لأنها ذهبت ولن تعود. نقرأ ذلك في كتابات بركة ساكن، وفي رواية «مترو حلب»، للسورية مها حسن، التي أعتبرها نشيداً حياً للتمزق الحادث في سورية، وفي رواية «صغيرة هي ياقوت» لمريم مشتاوي، وغيرها. في روايتك «صائد اليرقات»؛ قرر البطل فجأة كتابة رواية معتقداً أنها عمل لا يختلف عن تدبيج التقارير الأمنية؛ فهل ترى أن كتابة الرواية الآن أصبحت لكل من يشاء سواء امتلك الموهبة أم لا؟ - نعم. هذا ما أراه فعلاً. الرواية منتهكة، يكتبها أي شخص من دون أن يلم بأبجدياتها. ليس كل من امتلك قصة هو روائي، وليس روائياً كل من امتلك ماضياً حافلاً بالمفارقات. هناك من لا يملك أي تجربة، ويصر على الكتابة. أعرف أشخاصاً لم يقرؤوا كتاباً في حياتهم، لا رواية ولا غير رواية، ومع ذلك يكتبون وبعضهم يجد تشجيعاً من أشخاص أيضاً لا علاقة لهم بالقراءة، وبين يوم وليلة، يصبح لدينا روائي ليس روائياً، تجدينه يتحدث عن الرواية، ويمكن أن يشتم الروائيين الحقيقيين. البعض يصنف رواياتك «مهر الصياح»، و «توترات القبطي»، و «رعشات الجنوب»، و «إيبولا 76»، بأنها تاريخية، في حين أراها إنسانية اجتماعية موازية للتاريخ... هل تتفق معي؟ - هي روايات موازية للتاريخ، وليست تاريخاً حقيقياً. هذا صحيح. أنا أستلف من التاريخ بعض الأشياء وأنشئ تاريخي الموازي. ليست لديَّ وثائق ولا أقوال مؤكدة ولا كتب فيها حقائق مستخدمة، فقط شكل الأشياء والناس والبيوت والاقتصاد والحياة الاجتماعية في الفترة التي أريد الكتابة عنها، وبعدها أكتب نصي. تعرَّضت رواية «طقس» لنقدٍ مفاده أن السرد فيها لم يحمل هوية واضحة... كيف ترى هذا الرأي؟ - رأي مشروع ولا أعارضه ولطالما حظي بعض رواياتي بنقد جارح من البعض، وإطراء كبير من البعض الآخر. أنا أكتب وأمضي وكل من يرى شيئاً آخر يكتبه، ولا مشكلة على الإطلاق. الموروث الشعبي حاضر في معظم رواياتك، إضافة إلى أنك أحياناً تعمد إلى كتابة رواية داخل رواية... هل يمكن القول إن ذلك يمثل بصمتك الأدبية الخاصة؟ - منذ بدأت الكتابة وأنا أكتب ببصمتي الخاصة التي استطعت تطوير ملامحها على مر الزمن. لي طريقتي في الأسلوب والتقنية، ورسم الشخصيات. وهذه طريقة قد تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر. هذا شيء مشروع، ولا يلام عليه أحد، وأقول دائماً للذين يريدون الكتابة حتى في الورش التعليمية التي أشرف عليها، أن يسعوا ليكتبوا ببصمة خاصة بهم، ولا ينقادوا للسهل الموجود على الساحة. أنا أكتب الشعر أيضاً داخل الرواية، إن اقتضى الأمر، ولي قصائد نسبتُها إلى شاعر إسباني مفترض في «زهور تأكلها النار»، وفي «زحف النمل»، كتبتُ قصائد بالعامية، لتكون أغنيات المطرب، بطل الرواية. بدأت بكتابة الشعر، ثم انصرفت عنه وكتبت الرواية، لكنه يحضر في بعض رواياتك... هل ستعود إليه يوماً ما، أم اكتفيت بتوظيفه داخل الإطار السردي؟ - لن أعود لكتابة القصائد وإلقائها أمام الناس وتجميعها في دواوين. هذه مرحلة انتهت بالنسبة لي، وأعتقد أن من يريدني شاعراً سيعثر على بغيته في رواياتي. كيف ترى الجوائز الأدبية العربية؟ - هي مكسب كبير للكتابة. هذا ما أردده دائماً وحتى لو لم أفز بجائزة سأظل أردده. نحن لم نصدق أن الكتابة أصبحت تحت ضوء ما، بسبب جوائز لامعة مثل البوكر وكتارا، إنها أو قوائمها كفيلة بتشجيع القراءة، بخاصة بين الشباب الذين يتابعونها، وإن فاز أحد سينطلق كتابه بعيداً إلى عالم أرحب. لا ينبغي الهجوم على الجوائز بهذه الطريقة التي نراها كلما أعلنت جائزة عن قوائمها أو الفائزين بها. ليكتب الناس فقط، ويتنافسوا على الجوائز بأعمالهم. هذا ما أعتقده شخصياً. أفوز حيناً وأخسر أحياناً، لكني لا أتذمر أبداً، ولا أرى أفضلية لي على من فاز وأدعي أنني أحق منه. ينبغي التعامل مع الجوائز كمكسب وليس باعتبارها خِصماً تنبغي مقاومته. تُرجمت أعمال لك، فما الذي أضافه ذلك إليك؟ - لي أعمال تُرجمت إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية. الإقبال على الأدب العربي كان ضعيفاً في ما مضى وبدأ يتحسن. بعض أعمالي نجح في الوصول إلى القارئ الأجنبي وبعضها لم يصل بعد، لكن في النهاية ثمة كتب مطروحة بلغات مختلفة عن تلك التي كتبتُ بها، وستجد حظها ذات يوم، نحن نحتاج إلى الانتشار عالمياً، ليعرفنا الآخر بآدابنا وفنوننا، ولا يظل متمسكاً بصورة نمطية غير صادقة هو من اخترعها، عن العربي المسلم الإرهابي. لدينا ما يمكن أن نتقدم به. مؤكد لدينا أدب مختلف وفن مختلف، سيجد من يهتم به إن قُدم بطريقة محترمة. رواياتك ك «منتجع الساحرات»، و «336» تصلح لأن تكون أعمالاً سينمائية، فهل تفكر في ذلك؟ -لا مانع لديَّ من أن تتحول نصوصي إلى أعمال درامية، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، على رغم أن الكثيرين خاطبوني في هذا الشأن. في بلادنا العربية، الأشياء تُنجز ببطء.