دوّى صوت عالٍ، حسبه من كان ماراً بجواره صرخة استغاثة متألم، قبل أن يلتقط أنفاسه رويَّةً ويهدأ باله برهة، ليعلم أنها ضحكة صادرة من أعماق الشاب السوداني مجدي عثمان، اعتاد إطلاقها تفاعلاً مع قفشات زملائه (كمال وأمين وعبدالعال) كلما جمعهم سامر مقهى بلادهم المطل على كوبري طريق الستين عند «نزلة» الهنداوية. وحال عثمان هذا ليس الوحيد في ذلك المكان بل هو واقع مئات من بني جلدته الذين يؤمون مقهاهم صباح مساء يومياً، وترتفع الأرقام لتصل ذروتها نهاية الأسبوع، إذ يجد قاصديه فيه البراح والترويح عن أنفسهم ليس من عناء العمل فقط بل تخفيفاً من ضغوطات ما يسمونه غربة الأوطان و«فرقة الأحباء والأصدقاء». وعلى موائد صغيرة وكراسٍ «بلاستيكية» ومقاعد شعبية (تدعى البمبر) تتحلق مجموعات هنا وأخرى هناك، واحدة ترتشف القهوة وأخرى تتبارى في «الدومنة»، وثالثة غرقى في نقاشات رياضية أو سياسية أو فكرية حامية وطيسها، تصل إلى حد الصخب، لكنها لا تنتهي إلا بعناق مصحوب بعبارات الوداع الباسم حد «القهقهة» الصاخبة، كضحكة عثمان التي استقبل بها زملاءه ولفتت المارة، بيد أن الغريب في تلك النقاشات التي أضحت السمة البارزة في مقاهي الجالية السودانية المنتشرة في عروس البحر الأحمر أن العامل يغالط فيها الطبيب، ويصحح السائق معلومات المحاسب الكبير، ويعري الميكانيكي للأستاذ الجامعي تاريخ حزبه المنتمي إليه بالحقائق الدامغة، إذ إنه في ذلك الموقع لا يرى المثقف نفسه على سائق الأسرة الخاص، ولا المدير بمعتلٍ على الغفير، فالثقافة العامة قاسم الحضور المشترك. ولم تنل الحداثة من المقاهي السودانية في جدة شيئاً مثل واقعها في بلادها، إذ لا تزال متمسكة بكونها شعبية ذات طراز بسيط، حتى يخيل لزائرها أنه في إحدى نظيراتها في الأحياء الشعبية المنتشرة في العاصمة السودانية (الخرطوم)، والأكثر قرباً لهذا الواقع أنك لا تسمع إلا المصطلحات والعبارات السودانية، ولا تطالع ناظريك إلا القنوات السودانية التي يتابع فيها مرتادو المقهى آخر أخبار بلادهم وبرامجهم التراثية الخاصة خصوصاً في المساء، إذ يتوافدون زرافات ووحدانا منذ دخول وقت الأصيل ولا ينفض سامرهم إلا بعد جنوح الدجى، فيما يكون تجمعهم صباحاً قليلاً نظراً إلى ارتباط غالبيتهم بالأعمال، وتفضيل السودانيين بطبيعتهم الخروج في الخصوصيات عصراً ومساء. ولا يقتصر تجمع السودانيين في المقهى لارتشاف الشاي والقهوة فحسب، بل يجدون بجانب ذلك ما تفضله أذواقهم إذ لم تجد على قائمة الطعام غير المأكولات الشعبية المفضلة لأنفسهم والمشروبات البلدية المحببة لهم التي تشدهم لها طقوسهم الخاصة في طريقة تقديمها وكيفية تناولها. وتشكل المقاهي السودانية في المملكة حبل ربط للمغترب بموطنه إذ تأخذ أسماءها من أسماء مناطق أو شخصيات أو أحداث سودانية، فهناك مقهى الخرطوم ومدني وسنار وكسلا وأم درمان وعطبرة وكلها أسماء مدن متفرقة في السودان، إضافة إلى أخرى تحمل أسماء النيلين والجزيرة والطابية والشلال وأم دبيكرات إذ إنها مسميات لمواقع وتراث سوداني صرف.