مرات تمنحنا الحياة لحظات شعرية تضاهي الشعر نفسه، فكم كتب الشعراء عن شاعرية الحياة، وكم قال شعراء التفاصيل والمشاغل الفردية إنهم يصطادون الشعر من الحياة نفسها. قطعاً لا يأتي الشعر من الغيب، لكنه يحدس به ولا شك، أو لعله يرى في الواقع ما لا يُرى، ويدل على ما لا يُستدل إليه بأدوات أخرى، وربما يكون التضادّ الذي يحصل بين الحدس والواقع مولِّداً للاحتكاك الناري الذي يُشعل القصيدة ويطلقها لهباً في أمداء النفوس. قبل أيام، وقفتُ على منبر المبنى الذي كان مدرسةَ طفولتي الشاقة الشقية الشيقة، قارئاً قصائدي على مسامع أبناء القرية التي احتضنت براءاتي الأولى، وشهدَتْ تفتُّحَ رغباتي ونظراء الدهشات الفاتنة والرجفات الخفية، وساهمَتْ في تكوين وعيي ووجداني، وكان بعضٌ من رفاق الصف بين الحاضرين يستعيدون معي وقائع ماض يمضي زمنياً لكنه يظل مقيماً في مسامّ الذاكرة وتحت جلد الذكريات، وكنتُ أستعيد معهم طفولةً شاعرةً معفرةً بالدعاء والخرز الأزرق وأكف الأمهات المرفوعة نحو السماء موسعةً أبوابها بالصلوات والرجاء والابتهالات، متسائلاً في قرارتي: أليست مطاردة الجنادب والفراشات والزيزان الذهب ومرافقة القطعان والرعاة والنايات وأغاني الحصادين والحطابين ومراقصة الرعود والأمطار والعودة «بالأغصان نبريها سيوفاً أو قنا» ، و «الخوض في وحول الشتاء مُهللاً مُتيمناً»... أليست كلها قصائد مكتوبة بحبر الحياة نفسها التي تظل المنبع الأصل والمنجم الحقيقي لكل إبداع؟ سنحت لي الفرصة للوقوف على منابر الوطن العربي كافة، من أقصى الخليج الى أقصى المحيط، ولعلي في هذا من الشعراء المحظوظين الذين قدَّمَتْ لهم الدنيا هديةَ القبض على لحظات نادرة وحميمة من التواصل والتفاعل مع قرائهم في المدن والقرى والجامعات والمدارس. قرأت شعراً في ملاعب مكتظة ومدارج ملأى ومسارح حاشدة، وقصدت ضيعاً نائية وصلها الشعر قبل أن تصلها الكهرباء، وكلها أمسيات أشعلت لهب الفرح في موقدة قلبي وحرّضتني على مزيد من الشعر والكتابة، لكن لتلك الأمسية في طيردبا الجنوبية في قضاء صور، بدعوة من نادي المستقبل (سبقتها أمسية أولى قبل سنوات بدعوة من نادي النهضة)، طعم خاص جداً، كونَها كانت من على المنبر الذي وقفت إليه لأول مرة طفلاً ينشد خواطره في أعياد الأم والمعلم والاستقلال والشجرة وبقية الأيام الحُسنى في كتاب الوعي والذاكرة. عيد الأم كان مناسبة الأمسية، وأجمل ما شهدتْه، الى جانب احتشاد أبناء القرية على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، كان حضور عجائز القرية، اللواتي كن رفيقات أمي قبل أن تسبقهن الى عالم عساه أفضل وأكثر سلاماً وطمأنينة، وبعضهن يدخل لأول مرة في حياته قاعة أمسية أو ندوة، ليهبنني لحظة بهية ساحرة من أمتع لحظات الحياة، وليذكّرنني كم كان صادقاً ابن زياد يوم قال: ليت عجائز بني تميم يرينني! فكم في دواخل كلّ منا «ابن زياده»، مهما كان إنجازُه بسيطاً متواضعاً بحجم ديوان شعر ومساحة قصيدة. الأرجح أن عجائز طيردبا أتين لأجل أمي وذكراها وسيرتها الطيبة بكل ما فيها من كفاح ونضال ومغالبة دهر، ولأجل ذكرياتهن معها على درب الطُّهر والآلام. لكنهن سواء قصدن او لم يفعلن، وَهَبْنَ الشعرَ سحراً منقطع النظير وأعدنه الى منابعه الصافية ومنابته الأولى. وهل أنسى كم أنِسْتُ الى كبار السن في ساحة القرية ومجالسها العامرة بأحاديث وتجارب وخبرات حياة تعجز عنها بطون الكتب، متعلماً منهم ما لا توفره مدارس أو جامعات. وكم ركضت وأترابي لاهثين في الحقول والبراري خلف إناث الضوء والظلال، وكم تعفَّرْتُ بالتراب والحنان والنذور والأدعية. الشكر لطيردبا وشِيبِها وشبابها. هو شكر للذاكرة الخضراء أنّى كان مكانُها وزمانُها، للسنوات المضيئة في تجاعيد الوجوه، للينابيع المتدفقة من العيون، «للأمهات الواقفات على خيط ناي»، وللصبايا الحالمات بوردة تتفتح في القلب لا فقط في الحديقة. لعلي أكتب عن شأن خاص، لكن عذري أن فيه ما يجعله عاماً يمس كل قارئ، لأن ما من امرئ ليس لديه مسقط وعي وذكريات وملاعب أتراب وصبا وحكايات حُبّ وفراق وسهر ليال على شرفة الأشواق. ومَنْ غيرُ الشعر يؤبد تلك اللحظات في كتاب الأيام الآتية وفي ثنايا الوعي والأحلام.