لم يكن ينقص تحالف «اللائحة ضد الصهيونية» التي تتقدم للانتخابات الأوروبية عن دائرة باريس الموسعة سوى تأييد كارلوس الصاخب من سجنه! هذا يتكلم هاتفيا، متوجها لتجمع انتخابي بواسطة مكبرات الصوت. يهاجم «عصابة الغجر واليهود... المحميين من ال»ضد-فرنسا»، أعتذر عن استخدام تعبير عائد إلى مرحلة فيشي»! للمداخلة فضيلة الوضوح على الأقل، وهو وضوح ينزع عن «الاعتذار» معناه. تجد في اللائحة الآن سورال وهو كاتب انتقل من الحزب الشيوعي الفرنسي إلى «الجبهة الوطنية»، حزب جان-ماري لوبن القابع في أقصى اليمين، ثم غادر قيادة هذا مؤخرا نحو الحزب الجديد: «الحزب ضد الصهيونية»، الذي يترأسه يحيى غواصمي، مؤسس مركز «الزهراء»، وهو مغربي انتقل إلى التشيع وظهر ومجموعته المتناهية الصغر، بوصفه المكون العربي أو الإسلامي لهذا التجمع الغريب. وهذا الأخير يعمل للحصول على دعم القوى الإسلامية المقاومة، فيدّعي في المهرجان إياه أن حزب الله وحماس أيدا لائحته. وهو يستفيد من حقيقة أن العديدين من أوساط هذه اللائحة يدعون إلى طهران ودمشق وبيروت... وفنزويلا، بحجة أنهم «معادون للامبريالية». انتخابات البرلمان الأوروبي (785 مقعداً) التي تجري اليوم تفتقد لأي حماسة أو اهتمام، حتى برز الاستنكاف عن التصويت كهاجس أساسي لكل القوى المتنافسة. والأسباب عديدة، منها عدم وضوح آليات عمل هذا البرلمان، بل ضعف صلاحياته بالمقارنة مع الجهازين الآخرين، مجلس الاتحاد والمفوضية الأوروبية... هل يفسر ذلك الجوُ الباهت، الإثارةَ، الفرنسية بالطبع، التي تحيط ب»اللائحة ضد الصهيونية»؟ ربما، لو أن الأمر انحصر بالصحافة، وهو من مستلزمات المهنة. ولكن الإثارة تأتي خصوصاً من السلطات الفرنسية التي منحت اللائحة أكبر دعاية كان يمكن أن تحلم بها، عبر كلام سكرتير عام قصر الاليزيه في البداية عن «التفكير بحظرها»، بينما هو يعرف تمام المعرفة أن الآليات القانونية لمثل هذا الإجراء غير متوفرة، ثم عبر المواكبة البوليسية الاستثنائية – وشبه منع التجول في مسار معين – التي رافقت انتقال رئيسها وأعضائها للتصريح عنها في الدائرة المعنية بذلك. وغاية هذا السلوك، المحاك بعناية، هي الاستفادة من الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية الذي تتسبب به اللائحة، والتقدم خطوة في مجال عزيز على قلب السيد ساركوزي وطاقمه، وهو تحويل كل نقد جذري لإسرائيل، يتجاوز الكلام المتعارف عليه بأنه «صحيح سياسيا»، والذي يمارس انتقاد السياسة الإسرائيلية لأنها تعرقل العملية السلمية، إلى موقف مشبوه. مؤامرة؟ بل اللائحة المذكورة واحدة من أدوات توفرت اليوم لتحقيق هذه الغاية، ماء عكر فلا يلام من يصطاد فيه! تجمع اللائحة المذكورة خليطاً عجيباً، إلا أن أبرزها ولا شك هو الفكاهي المشهور السيد ديودونيه، وهو نصف كاميروني الأصل، عمل كمسرحي يساري، ولكنه أبدى دوما اهتماماً باختراق التمثيل السياسي المغلق في فرنسا، مركّزاً على هول العبودية التي طاولت الأفارقة واستمرارها في الوقت الراهن بأشكال مختلفة، حيث لا يلغي فظاعتها التمويه الذي يغلفها. لذا فهو ترشح في انتخابات مختلفة. ثم راح الرجل ينزلق رويدا إلى تأويل «عنصري» للمسألة العنصرية-الاستغلالية، وكان من السهل عليه سحب هذا التأويل على المسألة الفلسطينية، حالما اكتشفها في مطالع الألفية الثالثة. فهو يجد تشابهات غير قابلة للتجاهل بين الدائرتين. ثم أمعن في الانزلاق، فطوّر «نظرية» عن دور «اليهود» في تجارة الرقيق عبر السنغال، ثم أخرى عن «كره اليهود للسود» لأنهم يريدون احتكار العذاب الإنساني الأقصى. سيرورة ديودونيه معبرة جداً. فهو يمتلك تاريخاً ثقافياً وسياسياً متيناً، ينطلق من صفوف اليسار، المناهض لجماعة لوبن واليمين المتطرف، لينتهي في أحضانهم بحجة تلاقي «الأطراف والتطرف» كما قال. ولكن الأهم من هذه الجملة الغامضة، هي فكرة افتعال «زعزعة النظام»، التي تلازمها كالتوأم فكرة «استقدام الأفظع». وهذه تتكرر كثيرا في بعض الأوساط الراديكالية التي تعتبر نفسها يسارية: يدّعي ديودونيه انه دعا إلى التصويت للوبن في الانتخابات الرئاسية لعام 2006، «لأنه ليست لديه أغلبية نيابية، فهو إن وصل إلى الرئاسة، لن يتمكن من الحكم»، ويسمي هذا «إضفاء الحيوية على النظام السياسي» أو «خلق حالة ثورية». هذه السيرورة لا تخص الرجل وحده، بل تشاطره إياها على سبيل المثال رفيقته في اللائحة الأوروبية التي دافع عنها بحرارة كارلوس في مداخلته الهاتفية، وهي مناضلة قديمة كانت من مؤسسي حزب «الخضر»، وناشطة بارزة في كل شبكات دعم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في أوروبا، فإذا بها تلازم أشخاصا ينتمون إلى حركة «غود»، وهو مختصر «مجموعة الوحدة والدفاع» اليمينية المتطرفة ذات المنحى النازي، أو آخر هو سكرتير الشبيبة في حزب لوبن. هناك ظواهر مشابهة في كل أوروبا. لعله يمكن تفسير وجودها –المتعاظم - بالمقدار الفظيع من الكذب الذي تمارسه الآلة الدعاوية المهيمنة، بحيث تخنق كل ما عدا روايتها في تواطؤ ما بين السلطات الحاكمة والثقافة السائدة، وهي بالتأكيد حالة غير دينامية ولا ثورية، تحمل على الإحباط. أو بمقدار الظلم الفظيع، هو الآخر، الذي يستقر بخصوص مسائل بعينها، كالمسألة الفلسطينية، التي تعيش تناقضا هائلا ما بين وضوح معطياتها والانسداد الحقيقي أمام أي أفق حل لها، مضافاً إليه الجرائم اللاحقة بضحاياها، كما حدث مع العدوان على غزة مؤخرا. يولّد ذلك نزقاً مفهوماً ويأساً غير محدود، وتأويلاً للاستعصاء يجنح لرؤية المؤامرات في كل شيء، وسوء النية الخالص، وردهما إلى مقاربة «جوهرية»، «هوياتية» تحفز موقفاً مقابلا من الطبيعة نفسها، حتى وإن لم يعترف بذلك، وظل يغلف تحليلاته بألفاظ ماركسية شتى، وبالقاموس الواسع لشعبوية تعتبر نفسها تنتمي هي الأخرى إلى أدبيات التحرر الوطني والعالم ثالثية. إنها«الراديكالية الرثة»، التي تريد تجاوز صعوبات التغيير بفعل تبني ممارسة لفظية شديدة الثورية ولا تهاب أي حاجز، فينتهي بها المطاف في خدمة أعدائها.