يدفعك بعض الحكام العرب إلى تمني التدخل الخارجي لإنقاذ شعوبهم من ويلاتهم! يجعلك هؤلاء الحكام تنتقد تأخر الطائرات والصواريخ والغواصات عن دك حصون الحاكم وبنية البلد الأساسية، لعله يتوقف عن سفك مزيد من دماء شعبه، أو يصدق أن الأوان قد آن ليترك موقعه ويرحل. يصدق بعض الحكام العرب أنفسهم عندما يتخيلون أن في إمكانهم أن يخفوا قرص الشمس إذا ما وضعوا أيديهم أمامه! وصل بنا الحال أن «نهلل» لقدوم الأساطيل والبوارج والطائرات وحاملاتها إلى حدود دولة عربية، لأن الحاكم هناك لم يترك لشعبه أو لنا أي خيار آخر. لا يتصور هذا الحاكم أو ذاك أن يقف في صف واحد (طابور) مع مواطن يحمل الجنسية نفسها. هكذا ظهر التناقض بين بلدين عربيين متجاورين، فالأخ العقيد «ركب دماغه» وأصر على أن يطهر بلده من شعبه، وأن يقضي على الأخضر واليابس حتي يبقى هو وعائلته في مواقعهم، وذهب خياله إلى حدٍ جعله يعتقد أن العالم سيتركه يهدم بلده على رؤوس الناس رافضاً حتى الإقرار بأمر صار واقعاً. في الوقت نفسه، كان المصريون يقفون في طوابير طويلة ليمارسوا للمرة الأولى منذ عقود حقهم في الاقتراع الحر المباشر على تعديلات دستورية. في المكان نفسه الذي كان يدخله الرئيس السابق حسني مبارك من دون غيره وأفراد عائلته، وقف سكان حي مصر الجديدة في صفوف طويلة أمام لجنة الاقتراع من دون أن يأتي مبارك، فالمكان لم يعد يسع الشعب والرئيس الذي تم خلعه. تغير الزمن، وما كان مسموحاً به لم يعد مقبولاً. ولهذا كانت ردود فعل الواقفين في الطوابير غاضبة على كل من سعى إلى تجاوزهم، لينال ميزة لم تعد تُعطى لأي مواطن حتى لو كان مسؤولاً. وأدرك المسؤولون والشخصيات العامة ونخب المجتمع إلا قليلاً منهم أن الزمن تغير فوقفوا في «الطابور» حتى يصلوا إلى مركز الاقتراع، أما من سعى إلى التجاوز منهم فلم ينل التصفيق أو «التهليل» كما كان يجري، وإنما الاعتراض قولاً وفعلاً و «التجريص» في وسائل إعلام. في زمن حسني مبارك كانت الشوارع تُخلى، والمرور يتوقف، والازدحام يضرب البلاد، لأن الرئيس سيدلي بصوته في انتخابات هو وشعبه يعرف أنها ستزوّر، أو يقترع في استفتاء معروفة نتيجته قبل أن تفتح لجان الاقتراع أبوابها. يبدو بعض الحكام العرب وكأنهم يعيشون حياة أخرى غير تلك التي نعرفها. «يعيّرون» شعوبهم بالإنفاق على التعليم، في حين أن المدارس والجامعات لا تعلم شيئاً، وإن علمت المدارس والجامعات فتعليمها فاسد متخلف. ويملأون الدنيا صياحاً بنفقات العلاج وتأسيس المستشفيات وهي أصلاً لا تصلح لعلاج الحيوانات ومن يدخلها مفقود والخارج منها مولود. يبررون إفقارهم لشعوبهم بالأموال التي يسددونها دعماً لسلع أساسية، في حين أن رغيف الخبز لا يمكن أن يقبله فم أو تهضمه معدة. هكذا كان حسني مبارك، أما الأخ العقيد فتوهّم أنه حلّ العقدة عندما أعلن أنه ليس بحاكم أو رئيس وإنما قائد ثورة وليس عليه أن يستقيل لأنه لا يشغل منصباً رسمياً، ثم راح يهدد ويتوعد وعاد لينفذ كل ما تعهد به من خراب ودمار ودماء. المؤكد أن الشعوب العربية لم تتعود أن ترى الحاكم يقف إلى جوارها في أي «طابور» بل كثيراً ما يقف الحاكم وأمامه طوابير أخرى اصطفت لتحيته أو لتهتف له. تحولت الطوابير إلى تظاهرات تطلب الحرية والخبز. والغريب أن الأحداث التي وقعت في كل بلد عربي حدثت فيه ثورة خلال الأسابيع الماضية تكررت في هذا البلد أو ذاك. حافظ كل طرف على السلوك نفسه وإن تغيرت بعض المعطيات، وإلى أن يدرك الحكام أن عليهم أن يقفوا في «الطابور» الذي تقف فيه شعوبهم، فإن الثورات قائمة، وستنتهي بكل تأكيد بأن يخرج الحاكم الذي ثار عليه شعبه من المشهد ليزداد طابور الحكام الذين لا يجدون ما يحكمونه.