هناك شعوب تستكين، لا سيما حين تجد نفسها مظلومة ومهمشة، إلى الماضي - معتقدة إياه تاريخاً - جاعلة فيه زمناً ذهبياً من المستحيل استعادته... فتعيش صمتاً يائساً. وفي اليأس أحياناً نوع من راحة ودرء للأخطار وتحسّب للمجهول. وهناك شعوب تصنع التاريخ، حتى من دون أن تدري، أو من دون أن تسعى إلى ذلك بداية. يصبح الأمر بالنسبة اليها وإلى دينامية الحركة التاريخية، أشبه بكرة ثلج تتدحرج متضخمة عند كل دورة لها. وهناك، بالطبع، شعوب تعيش يومها من دون أن تكون في حاجة الى الانتماء الى أي من هذه الأنواع. واليوم، بعدما حدث في مصر، إذا حاولنا أن نجد تصنيفاً ملائماً للحالة المصرية الراهنة، من المؤكد أن الخيار الثاني يبدو أكثر ملاءمة، من الناحية النظرية على الأقل. وآية ذلك أننا، الى ثلاثة أو أربعة أسابيع مضت، ما كان في وسع واحد منا أن يراهن على أن ما يحصل الآن في مصر كان يمكن توقع حدوثه. وحتى إذا كان كثر، أمام ما حدث في تونس، قالوا ان شيئاً مثل ذلك سيحدث قريباً في عدد من البلدان العربية - كان من المستحيل على أحد أن يسمي مصر بين تلك البلدان. ليس هذا، طبعاً، لأن الأوضاع في مصر مستقرة وان شعبها سعيد وقوى المعارضة فيها ضعيفة متآكلة، بالنسبة الى بعضها، ومثيرة لرعب العالم في حال أتيح لها أن تقبض على السلطة، بالنسبة الى البعض الآخر، بل لأن بلداً فيه من التناقضات مثل مصر، وله ذلك الاتساع الجغرافي، ويقبض عليه رجال الأعمال بتلك الشاكلة، كان من الصعب تصوّر قيامه بثورة، كما كان من الصعب أكثر تصوّر حدوث انقلاب عسكري فيه. وبصراحة نعرف أن كل التغيرات التي عرفتها مصر وغيرها من البلدان العربية خلال ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن، انما تراوحت بين الانقلابات العسكرية ومؤامرات السفارات الغربية، والاثنين معاً في أغلب الأحوال. على خطى ثورات الشبيبة إزاء هذا، كان من الصعب طبعاً - ان لم يكن من المستحيل - تصوّر السيناريو الذي حدث في مصر. وحتى اليوم، على رغم ما حدث، لن يستقيم أبداً القول ان شباب مصر، الذين صنعوا هذه الثورة الغريبة والمدهشة، انما صنعوها دفاعاً عن «معارضة»، رسمية أو غير رسمية، لأنها خسرت انتخابات مزورة. ونقول هنا ان شباب مصر هم الذين صنعوا هذه الثورة، جارّين اليها شعب مصر كله، بدرجات رضى ووعي متفاوتة لدى هذا الأخير، لتقرير ما حدث بالفعل. ولعل هذا ما يدفعنا الى ترك كل المقارنات التي أقامها التفكير العربي العام، بين ثورة ميدان التحرير وبقية ما تبقى من ثورات حدثت في العالم كله ومنذ عقود أو قرون. والحال أنه إذا كان لنا ان نقارب بين «ثورة شباب مصر» وأيّ تحرك آخر في التاريخ، فالمقاربة لن تكون إلا مع حركات الشبيبة في فرنسا وغيرها، حوالى عام 1968. أو ان هذا ينطبق على الأقل على الشرارة التي أطلقت ثورة الأيام الثمانية عشرة. ولا سيما من ناحية النتائج - ليس التي أسفرت عنها فقط، بل التي ستتمخض عنها أكثر وأكثر. ولئن سيكون ثمة في الزمن المقبل، مجال أوسع بكثير للتوقف عند ما حدث وتحليله، فإن ما يمكن قوله منذ الآن هو اننا انما شهدنا في مصر، في أيام متتالية، ثورتين على الأقل لا ثورة واحدة: من ناحية، ثورة شباب مصر التي تأرجحت وهي ترسخ نفسها خلال الأيام الأولى، ثم من ناحية ثانية، ثورة شاركت فيها بقية قطاعات المجتمع المصري، حين أخذت العدوى من الشباب ورمت الخوف جانباً، وأدركت - في شكل عفوي غالباً - ان النظام يترنح. وان كان يمكننا وصف الثورة الثانية بأنها سياسية، تكاد تكون تقليدية (كلاسيكية) في مجال إطاحة شعب بحكامه، وسط صمت محايد من الجيش، وانفراط عقد السلطة، بفعل أخطائها وكوارث أحدثتها، أكثر مما بفعل صراع حقيقي، نتوقف هنا عند الثورة الأولى، التي يبدو لنا انها ذات أهمية قصوى وأثر دائم سيتزايد مع الوقت مفعوله وفاعليته، وليس على الصعيد المصري وحده. وقد يستحسن هنا قبل الانتقال الى الحديث عن الثورة الأولى أن نلاحظ ان الثورة الثانية تبدو - على المدى المنظور - وكأنها أنقذت النظام بدلاً من أن تسقطه، لأننا نعرف ان ما سقط في مصر هو سلطة الرئيس مبارك وأسرته وحزبه. أما النظام (كنظام جمهوري ديموقراطي يضمن الجيش استمراريته محاولاً الآن ان يقوده نحو مثله الأعلى الجمهوري الدستوري الديموقرطي هذا) فلم يزل على حاله، ومن المؤكد أنه لن يزول بزوال رأسه... وهذا أمر مؤكد حتى ولو كان «إسقاط النظام» واحداً من الشعارات الأساسية في استخدام خاطئ لمصطلح «النظام» لا نعتقد أنه يؤثر في شيء. انطلاقاً من هنا. وتحديداً لأن المعالم السياسية لما حدث في مصر عند نهاية ثورة الأيام الثمانية عشرة، ستظل قابلة للتبدل وتثير المخاوف، لا بد من التوقف عند ما هو، في رأينا، أكثر أهمية بكثير: الثورة الأولى، ثورة شباب ميدان التحرير، التي - على سياسيتها التي لا مراء فيها - تبدو لنا متجاوزة ذلك البعد السياسي، وفريدة من نوعها في التاريخ... وبالتحديد لأنها - في عرفنا - ثورة حققت نجاحها المطلق منذ أيامها الأولى، وبمجرد أن تمكنت من الصمود، حين بدأ أصحابها - أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع - يجرون اليهم شرائح اجتماعية أخرى، ستكون هي، كما أسلفنا، من سيجهز على حكم الرئيس مبارك. وبصدد هذه الثورة، يمكننا أن نتحدث عن جذرية مطلقة ونجاح مطلق، انطلاقاً أولاً، مما أخذ عليها بداية من لدن المعلقين والمحللين إذ اجتمعوا على القول انها تبدو لهم ثورة من دون برنامج عمل ومن دون هدف محدد. وكان هنا الخطأ الأول، في التشخيص لا في الاستنتاج. ذلك ان القوة المطلقة لهذه الثورة، كان هنا بالتحديد: كانت في ان شباب الطبقة الوسطى المصرية - أصحاب تلك الثورة الحقيقيين - عبّروا عما يرفضون، من دون أن يطرحوا أي بديل سياسي، وفي يقيننا انهم لو اتبعوا الرفض بالاختيار، لكانوا غرقوا في الأيديولوجيا ولما تمكنوا من جرّ «الشعب» كله الى جانبهم. لو فعلوا لبدوا مثل أي حزب سياسي معارض، لديه أجندته وبرنامج حكمه. لبدوا وكأنهم يريدون ان يحلوا، هم أنفسهم، محل الحكم القائم. ولفقدت ثورتهم أهميتها الأساسية: الأهمية التي كمنت في انهم لم يحاولوا على الإطلاق أن يدّعوا إعادة إنتاج نظام الحكم أو قيادة تآلف أحزاب يطرح نفسه بديلاً للحكم القائم، بل حاولوا - ونجحوا في - ان يحلوا أنفسهم بديلاً من المعارضة. وبالتحديد من معارضة لم يكن لها وجود في تاريخنا العربي الحديث، وفي مصر تحديداً، على الأقل منذ تحولت المعارضة الحقيقية الى مجرد طرف يطرح نفسه سلطة بديلة كوجه آخر من وجوه النظام. ولنراجع هنا في ذهننا شتى أنواع المعارضات التي عرفتها البلدان العربية، ولا سيما البلدان التي عرفت سلطات انقلابية على مدى العقود الطويلة الفائتة، ولنتذكر أن معظم الذين توصلوا الى الحكم بعدما كانوا معارضين، بدوا في ممارستهم الحكم أسوأ من الأنظمة التي حلوا مكانها - وغالباً بفضل انقلابات عسكرية. من هنا يخيّل الينا ان ما حققه شباب مصر، هو انهم - ومن دون وعي نظري واضح تماماً - أعادوا إنتاج المعارضة الاجتماعية والسياسية، التي كانت غائبة تماماً، بصفتها قوة مراقبة دائمة ترصد نشاط النظام، أي نظام، وترعبه إن هو حاول أن يخطئ أو يخون برامجه التي وصل الى السلطة انطلاقاً منها. بعيداً من الشعارات الرنانة في هذا المعنى، يبدو لنا صواب المقاربة بين ثورة استهدفت ان توجد كمعارضة دائمة، من دون ان تتطلع الى الوصول الى الحكم، وبين حركة شبيبة 1968، الفرنسية والأوروبية التي أنتجت، من دون ان تحكم، وحتى بعدما أفتى كثر من المنظرين بأنها «فشلت»، أنتجت الأنظمة الديموقراطية والحريات والحداثة والمسؤولية الأخلاقية التي يتمتع بها الأوربيون، من دون ان تكون مطبقة دائماً. إذ، في مطلق الأحوال، نعرف أن أي نظام حاكم في أوروبا، ومهما أخطأ، يعرف انه سيعاقب في نهاية الأمر، في صناديق الاقتراع، وربما في الشارع أيضاً ان لم ينفع ذلك العقاب، من قبل مواطنين، يعرفون انهم هم من يملك الوطن، ويريدون أن يحكموه، انطلاقاً من تلك الصناديق، كما من الشارع حيث يمكنهم أن يحتجوا فارضين إرادتهم، المرتبطة بمصالحهم، من دون أن يخشوا قمعاً سلطوياً، من طريق قوات الأمن، ومن طريق شرائح من الطبقات المسحوقة (بلطجية... الخ) يمكن النظام ان يستأجرها للمناسبة. ومن الواضح اننا قبل سطور استخدمنا، في شكل مقصود عبارة «إرادتهم المرتبطة بمصالحهم»، لأننا نرى ان ها هنا تكمن نقطة القوة الثانية في حركة شباب مصر الذين، بالنسبة الى الغالبية العظمى منهم على الأقل، لم يرفعوا أية شعارات أيديولوجية أو سياسية كبرى ولم يأبهوا، وهم يقومون بحركتهم بمن راح يتحدث عن انهم سيبنون شرقَ أوسطَ جديداً، أو شرقَ أوسطَ إسلامياً... أيّ منهم، في الحقيقة، لم تغره هذه الوظيفة المسندة اليهم من الخارج، وبالتحديد لأنهم جميعاً يعرفون منذ البداية ان صدقية حركتهم - والتي ستجعلهم في النهاية يربحون - تكمن في أن هذه الثورة هي ثورة تنطلق من مصالحهم ومصالح الشعب الذي راحوا يدركون بالتدريج انهم قادرون على إسماع صوته كله في ارتباط مع حياته اليومية وتطلعاته المستقبلية في مواجهة نظام فاسد وطبقات طفيلية تسرق خبزهم اليوم وذلك المستقبل. لم ينتفض شباب مصر من أجل أي شرق أوسط على الإطلاق، ولا طبعاً من أجل أي شرق أوسط هو مزيج من «الجديد» (على الطريقة الأميركية) أو «الإسلامي» (على الطريقة الإيرانية)... وبالتحديد لأنهم لم يكونوا مستعدين لتقبل دروس في التجديد أو في الأسلمة. فهم إنما أرادوا منذ البداية - فيما يعبّرون عن إسلامهم لا عن «إسلاميتهم» في صلوات رائعة جمعتهم وسط ميدان التحرير - ان يصنعوا التاريخ، لا أن ينتسبوا الى الماضي، وأن يَدخلوا ويُدخلوا وطنهم في العصر والزمن، لا أن يخرجوا منهما. ومن هنا نراهم حققوا هذه الأهداف، حتى ولو كان ثمة نكوص لاحقاً في السلطة، أو حدث ابتعاد عن الديموقراطية. ذلك أن ثورة شباب مصر، أتت ثورة في الذهنيات، بقدر ما هي ثورة في السياسة وفي الوضع الاجتماعي. وهي بالتحديد ثورة في الذهنيات لأنها كانت تحركاً أزال أول ما أزال، عنصر الخوف الذي كان يمنعهم من التحرك، كما أنه كان ولا يزال يمنع مجايلين لهم في بلدان كثيرة، عربية وغير عربية، من التحرك. ولئن كان ثمة خوف على النتائج السياسية دائم، وبالتالي على النتائج الآنية لأي تحرك ثوري، من الواضح ان هذا الخوف لم يعد موجوداً في مصر، حيث بدأت شرائح متعددة من المجتمع تدرك انها لم تتحرك من أجل حزب أو زعيم أو ائتلاف أو معارضة، انما من أجل مصلحتها هي. ومن المؤكد أن بقاء هذه الشرائح، في المعارضة الدائمة، معبّرة عن نفسها في صناديق الاقتراع، وفي الاستعداد الدائم للنزول الى الشارع، من الآن والى الأبد، من دون ان تخشى قمعاً، هو الذي سيضمن القدرة الدائمة على إحداث التغيير المنشود، ليس لمرة واحدة تطول أبد الدهر في خيانة واضحة لأهداف الثورة (كما حدث في مصر خلال العقود التي تلت التفاف الشعب حول حركة الضباط الأحرار عام 1952)، بل في شكل متواصل، مع الاستناد الدائم الى ذلك التواصل بين أصحاب إرادة التغيير، من طريق الإنترنت وأخواتها، ذلك «الأمير الأحدث» الذي يحلّ فيما نرى، أكثر وأكثر، محل «الأمير الحديث» الذي كان أنطونيو غرامشي، تحدث عنه في معرض توصيفه لوظيفة «الحزب» (وحزبه الشيوعي الإيطالي تحديداً) في القرن العشرين، ولعل ثمة هنا ملاحظة تفرض نفسها، وتجيب على حوارات تلفزيونية كثرت هذه الأيام طارحة على الشباب المصري سؤالاً حول ما إذا كان يسعى الآن إلى تشكيل أحزاب. فمن الواضح ان السعي الى تشكيل هذه الأحزاب، ومهما كان نوعها أو برنامج عملها، انما هو الفخ الأكبر الذي قد يواجه الشباب المصريين، وغيرهم... وذلك بالتحديد لأن هذه الثورة أثبتت عقم دور الأحزاب التي لا يمكن أن يكون لها من هدف سوى الوصول الى السلطة. فالشعب، حين يتمكن من أن يعيد إنتاج المعارضة فارضاً عليها دوراً ديموقراطياً دائماً، ودور المراقب الدائم لمن يحكم، لكل من يحكم مسلطاً فوق رأس أي نظام يحكم، سيفاً يهدده إن هو حاد عن دوره كخادم للوطن، هذا الشعب يكون هو، عبر قدرته المذهلة على التواصل وتبادل الرأي مستعيناً بتكنولوجيا تواصل حديثة تزداد فاعليتها يوماً بعد يوم، الحزب الحقيقي والحزب الأكثر قوة. والأكثر قوة بالتحديد، لأنه يتبع مصالحه المشتركة ويراقب ويعاقب ولا يصبح عبداً للماضي أو لمصالح الآخرين أو للشعارات الرنانة التي تقوده الى أفخاخ. أما بالنسبة الى الدور العالمي والعربي، للشعب المصري، فإنه ماثل بالتأكيد، عبر تمكن مصر الجديدة، اليوم، من أن ترسخ ديموقراطيتها، والتصاقها بالشعب وبناء مستقبل له، نظاماً بضمانة الجيش، ومعارضة بضمانة الشعب وقد عادت تقوده من جديد طبقة وسطى استعادت حياتها ودورها في المجتمع بحداثتها ووعيها وإعادتها الاعتبار إلى الفردية تفكر وتعي وتقرر. لو فعلت مصر هذا، ستكون ثورة شبابها الدائمة قدوة لشعوب الشرق الأوسط وغيرهم تحركهم لبناء مستقبلهم (بعيداً من أطماع هذا البلد أو أيديولوجية ذاك او تطلعات أية قوة اعتادت في الأزمان الأخيرة ان تسلب لنفسها أدواراً ليست لها مستفيدة من الفراغ العربي)، بفعل العدوى واستعادة الدور المحلي وفرض نفسها معارضة جديدة، لا سلطة جديدة تحكم. وفي يقيننا أن دور الشعب، وطبقته الوسطى، كرقابة ومعارضة دائمة، هو ذلك التجديد التاريخي الذي يفاجئ به شبان مصر، العالم والجيران، وليحكم بعد ذلك من يحكم، سواء أكان معارضة تقليدية او سلطة ليبرالية او مزيجاً من مشاريع عدة، طالما ان الثورة الشبابية قالت كلمتها وأعادت إنتاج مفهوم المعارضة والرقابة الشعبيتين ولم تغرق في رمال الصراع على السلطة. * كاتب لبناني من أسرة «الحياة»