يأتي إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السبت الماضي، عن بدء «تحركات عسكرية على الحدود مع محافظة إدلب، تواكب استعدادات الجيس السوري الحر لدخولها»، كي يؤكد المسعى التركي الهادف إلى توسيع نطاق عملية «درع الفرات»، لتشمل محافظة إدلب ومناطق حول بلدة عفرين، تنفيذاً لاتفاقات خفض التصعيد المبرمة في اجتماعات آستانة بين الروس والإيرانيين والأتراك، ولعل الهدف الأهم من هذه العملية العسكرية بالنسبة إلى تركيا هو منع تمدد ميليشيات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، وقطع أي تواصل بين المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات «وحدات حماية الشعب»، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية. غير أن هذه العملية العسكرية المنتظرة منذ زمن في إدلب، غير معروفة المسارات والكيفيات والاتجاهات إلا في خطوطها العامة، حيث إأن الدفعة الأولى من القوات التركية دخلت من معبر أطمة الحدودي في ريف إدلب، واتجهت إلى مدينة دارة عزة الواقعة في ريف حلب الغربي برفقة عربات تابعة ل «هيئة تحرير الشام»، أي بالتوافق معها، وهذا يشير إلى أن أحد الأهداف المرسومة مبدئياً هو استطلاع المنطقة من دارة عزة إلى قرية خربة الجوز الحدودية، بغية التحضير لانتشار القوات التركية على كامل الحدود التركية السورية، وبالتالي تنفيذ خطة تركية تهدف إلى وصل قوات درع الفرات الموجودة في ريف حلب الشمالي مع تلك التي ستنتشر في ريف إدلب، وذلك بغية تأمين ممر تركي آمن للجزء الشمالي من محافظة إدلب على طول 120 كيلومتراً وبعمق 30-40 كيلومتراً داخل الأراضي السورية. وإن تحقق ذلك، فإنه سيفضي إلى التخلص من عناصر «هيئة تحرير الشام» أو إبعادهم عنها على الأقل، والأهم هو قطع الإمدادات كافة عن ميليشيات وحدات حماية الشعب الموجودة في عفرين، وبالتالي قطع الاتصال الجغرافي بين كانتونات ما يسمى الإدارة الذاتية. خرائط مسرّبة ويبدو أن إدراج محافظة إدلب ضمن مناطق خفض التصعيد في اجتماع آستانة الأخير، تطلّب من عسكريي الأطراف الثلاثة، روسياوتركيا وإيران، تجزئة المحافظة جغرافياً، وتقاسم النفوذ فيها، حيث نشر بعض وسائل الإعلام التركية خرائط مسربة، تقسم المحافظة ثلاثة أقسام، القسم الأول تحت النفوذ التركي، ويمتد من غرب طريق (أوتوستراد) حلب- دمشق الدولي، يبدأ من ريف حلب الغربي ومناطق متاخمة لبلدة عفرين شمالاً، ويندرج فيه معظم محافظة إدلب، ومركز المدينة الرئيسي، والمدن والبلدات الكبرى في محافظة إدلب، مثل جسر الشغور وسراقب ومعرة النعمان، وصولاً إلى جنوب مدينة خان شيخون. والقسم الثاني، يمتد من شرق خط سكة قطار حلب- دمشق، ويشمل أطراف محافظة إدلب الشرقية، ومن بينها منطقة أبو الظهور التي تحوي مطاراً عسكرياً يحمل اسمها، وأجزاء من جنوب حلب وشمال حماة، وستكون منطقة نفوذ روسي وإيراني. فيما يمتد القسم الثالث من الشمال حتى الجنوب، أي إلى غرب خط القطار المذكور، وشرق أوتوستراد حلب- دمشق الدولي، ويبدأ من محيط خان طومان جنوب حلب مروراً ببلدات وقرى في محافظة إدلب، وصولاً إلى محيط مناطق قريتي عطشان وسكيك شمال حماة، حيث من المخطط له أن يتم حصر وجود عناصر «هيئة تحرير الشام» في هذا القسم من المحافظة. واللافت هو مسارعة وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى دعم التحركات التركية المزمعة في إدلب، وتأكيدها ثبات موقفها من «هيئة تحرير الشام»، التي لا تزال تعتبرها تنظيماً إرهابياً مرتبطاً بتنظيم «القاعدة»، لكن الأهم هو موافقة القوى العسكرية والمدنية المسيطرة على مدن وبلدات وقرى هذه المحافظة، حيث يوجد عدد كبير من الفصائل والتنظيمات العسكرية المعارضة، خصوصاً «هيئة تحرير الشام» التي كانت تضم كل من «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً، ويقدر عدد عناصرها بأكثر من تسعة آلاف مقاتل)، ولواء الحق ولواء أنصار الدين وجيش السنة وحركة نور الدين الزنكي وسواها، لكنها شهدت في الآونة الأخيرة انسحابات كثيرة ومؤثرة، أهمها انسحاب حركة نور الدين الزنكي ولواء الحق ولواء أنصار الدين. كما توجد في محافظة إدلب حركة «أحرار الشام الإسلامية»، ومعظم مقاتليها من السوريين، وتعرضت أخيراً لهجمات عنيفة من «جبهة فتح الشام»، وقد نشأت هذه الحركة، بوصفها إحدى الفصائل المعارضة المعتدلة، وذلك باتحاد أربع فصائل إسلامية سورية، هي «كتائب أحرار الشام» و «حركة الفجر الإسلامية» و «جماعة الطليعة الإسلامية» و «كتائب الإيمان المقاتلة». ويوجد أيضاً فصيل «فيلق الشام»، الذي يضم جماعات إسلامية معارضة اندمجت من أجل تعزيز قوة الإسلاميين المعتدلين في الصراع المسلح في سورية، وتمّ تشكيله من حوالى تسع عشرة مجموعة مختلفة، كان بعضها ينتسب سابقاً ل «جماعة الإخوان المسلمين» السورية وذراعها العسكرية «هيئة دروع الثورة». وهناك «جيش المجاهدين»، الذي يحمل راية «الجيش الحر» إلى جانب رايته، وتشكل من ائتلاف ضم مجموعات إسلامية لمحاربة تنظيم داعش. ولواء «فرسان الحق»، وهو فصيل من «الجيش السوري حر»، ولواء «صقور الجبل»، وهو أيضاً فصيل من «الجيش السوري الحر»، وفصيل «تجمع فاستقم كما أمرت»، الذي يرفع بدوره راية «الجيش الحر» بالإضافة إلى رايته، ولواء «صقور الشام»، الذي يقاتل إلى جانب «الجيش السوري الحر». كما يوجد أيضاً في محافظة إدلب أيضاً فصيل مقاتل يعرف ب «الحزب الإسلامي التركستاني»، وفصيل «جند الأقصى»، الذي انضم أخيراً إلى «جبهة فتح الشام»، وهو مقرب من تنظيم الدولة الإسلامية «داعش». ويقدر مجموع عدد عناصر هذه التشكيلات العسكرية في محافظة إدلب بحوالى أربعين ألف مقاتل، وفق تقارير بعض مراكز الدراسات. الفاعليات المدنية أما الفاعليات المدنية في محافظة إدلب فهي كثيرة ومتنوعة، بعضها انتخب بشكل حر نسبياً من طرف الأهالي، وأكثرها جرى تعيينه من «جبهة فتح الشام»، حيث قامت الأخيرة بحل «مجلس مدينة إدلب»، الذي تشكل من فاعليات مدنية في عام 2013، وفي الآونة الأخيرة أطلقت شخصيات مقربة من الهيئة «مبادرة الإدارة المدنية في المناطق المحررة»، وحضر فاعلياتها نحو 40 شخصاً يمثلون أكاديميين ومنظمات وهيئات وفاعليات وجهات عسكرية، وتشكل إثرها في مدينة إدلب ما يعرف باسم «المؤتمر السوري العام»، الذي أعلن عن تشكيل «حكومة إنقاذٍ» في الدّاخل السّوري، ومن أجل إدارة الأمور المدنيّة في محافظة إدلب والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. وتزامن ذلك مع محاولات من «هيئة تحرير الشام» فرض سيطرتها على مفاصل المحافظة، لكن اللافت هو تشكيل هذه الحكومة بعد ساعات من إعلان الرئيس التركي بدء عملية دخول قوات الجيش السوري الحر إدلب. موقع مميز وتتمتع محافظة إدلب بموقعها الجغرافي الهام والمميز، لكونها تحاذي الحدود التركية، حيث تجاورها من الشمال ولاية أنطاكية (هطاي) التركية وبلدة عفرين السورية الخاضعة لسيطرة ميليشيات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، ويحدها من الشرق محافظة حلب ومن الغرب محافظة اللاذقية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، وتضم مناطق حضرية مثل معرة النعمان وسلقين وحارم وبنش وجسر الشغور وأريحا وسواها. وتبلع مساحة المحافظة 6100 كلم مربع، وهي تحولت تجمعاً ونقطة ارتكاز هامة للفصائل السورية المسلحة المعارضة، وينظر إليها بوصفها النقطة المحورية الاستراتيجية في المعادلتين العسكرية والسياسية، حيث زادت أهميتها أخيراً بعد ترحيل معظم المقاتلين الذين عقدت معهم روسيا وإيران والنظام اتفاقات التهجير القسري، ضمن عمليات التغيير الديموغرافي الجارية في سورية. ومع الإعلان عن العملية العسكرية في إدلب، تكثر المخاوف من كيفية تنفيذها، لكونها محفوفة بالمخاطر على الأتراك وعلى السوريين، خصوصاً وأن أكثر من مليونين ونصف المليون إنسان يعيشون في إدلب ومناطقها وقراها، حيث تعرضت جميع مناطق المحافظة ومدنها بعد اندلاع الثورة السورية وانطلاق التظاهرات السلمية، مثلها مثل أغلب المحافظات السورية، إلى قصف من مقاتلات النظام، الأمر الذي أفضى إلى نزوح مئات آلاف المدنيين، وكانت محافظة إدلب، خصوصاً مناطقها الحدودية مع تركيا وجهة النازحين والمهجرين من محافظات حلب وريف دمشق وقرى الساحل السوري وريف حماة الشمالي، إذ نزح آلاف العائلات باتجاه المخيمات التي تم نصبها على الحدود السورية التركية، وخصوصاً من المهجرين قسرياً من مدينة حلب ومنطقة داريا والمعضمية ووادي بردى وسهل الغاب، وبات القسم الأكبر من مخيمات النزوح داخل سورية يقع في محافظة إدلب، إذ يوجد في هذه المحافظة أكثر من 300 مخيم، غالبيتها عشوائية وغير منظمة ولا تتلقى أيَّ دعم من الهيئات الدولية أو المنظمات الإنسانية العالمية، وتعتمد على مساعدات الجمعيات المحلية. أما المخيمات النظامية التي تشرف عليها تركيا أو منظمات دولية فلم تعد تستقبل نازحين جدداً، وأصبح عدد النازحين الذين تؤويهم قليلاً مقارنة بأعداد السوريين الذين نزحوا إلى المخيمات الموجودة في محافظة إدلب، في حين أن بعض أهالي إدلب فضلوا العيش في الكهوف الجبلية ليحتموا من قصف مقاتلات النظام ومقاتلات النظام الروسي. وتشير تقارير موثوقة الى أن أغلب القاطنين في مخيمات النزوح ضمن محافظة إدلب هم من أهالي المحافظة نفسها، إضافة إلى نازحين من محافظات أخرى، مثل حلب، وحماة، وريفي اللاذقية، وحمص. ويعتبر تجمع مخيمات أطمه من أكبر المخيمات في سورية إذ يحوي ما يقارب 150 ألف نازح، يليه في تعداد النازحين مخيم صلاح الدين القريب من قرية خربة الجوز والذي يؤوي 40 ألف نازح. وهم في غالبيتهم يشكلون جزءاً هاماً من الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية. ويخشى في حال أي عملية عسكرية أن تحدث كارثة إنسانية كبرى تضاف إلى الكوارث التي ألمّت بالشعب السوري منذ أن خرج مطالباً باسترجاع كرامته ونيل حريته، فليس أمام غالبية سكان إدلب المدنيين سوى الهروب من حمى المعارك إن اشتعلت واللجوء إلى تركيا التي تحتضن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري، وسيثقل كاهلها في حال لجوء أعداد إضافية منهم إلى أراضيها، وبالتالي هل ستتحمل تركيا كلفة كل ذلك؟ يدرك القادة الأتراك أن أي سيناريو عسكري، بمشاركة الجيش السوري الحر، لن يكون مقبولاً من «هيئة تحرير الشام»، وخصوصاً إذا حصل بإسناد جوي روسي، وسيكون مكلفاً بالنسبة إليهم بشرياً ومادياً، كما يدركون جيداً أن لا مصلحة لبلادهم في خوض معركة مكلفة ضد «هيئة تحرير الشام» أو بالأحرى ضد «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة) وغير معروفة النهايات والتكلفة المادية والبشرية، ولعلهم يفضلون التوصل إلى اتفاق يفضي إلى نشر قواتهم بغية حفظ الأمن ومنع القصف الروسي، وذلك عبر التحاور مع قادة النصرة وسواها من الفصائل على الأرض، وهو سيناريو مفضل لدى أهالي إدلب لأنه ينقذ المنطقة التي تتوعدها القوى الدولية بكارثة كبرى في حال بقيت جبهة فتح الشام وأخواتها مسيطرة على المنطقة، لكن، مع ذلك فالاحتمالات ما زالت مفتوحة، ولا يوجد خيار حاسم في ظل المعطيات على الأرض. * كاتب سوري مقيم في تركيا