يتاح لعدد كبير من المحسوبين على الثقافة والإعلام توجيه النقد اللاذع لفئات من المجتمع، ووصمها بأبشع الصفات التي تخرج عن باب اللياقة. ويندر أن تجد من هؤلاء مدحاً أو ثناء على مجتمعه أو رفعاً لمعنوياته. حيث يعتقد بعض المثقفين وكذلك بعض أطياف المجتمع بأن المثقف إنسان دائماً يجنح نحو الرفض والتمرد. فيما يغرق آخرون من المثقفين والإعلاميين، في المصطلحات والتفنن بها وتركيب الجمل الرنانة الغامضة، حيث يعتقد كثيرون بأن الثقافة أو اللغة الإعلامية هي هذا النمط من الحديث، فيفرط فيه ليخفي سوءته وضحالته الفكرية. ويجنح بعضهم إلى التنظير للمجتمع وأعماله والعاملين فيه (ينبغي كذا، ولا ينبغي كذا، يجب هذا، ولا يجب ذاك) فيما تقل مشاركة هؤلاء في الأعمال الميدانية الاجتماعية، فتجده فقط ينظر من وراء مكتب حشر نفسه فيه، وكاد لا يصدق أن المكتب والكرسي من الخشب الذي يسوس، أو من الحديد الذي يصدأ! وهذه اللغة في تناول المثقف للحوار أو التخاطب مع القارئ، تسمى لغة «النخبة»، وهي مصطلح يطلقه عادة المثقف الافتراضي كنوع من الترفع عن القارئ أو حتى على زميله في المهنة، الذي هو من وجهة نظره لا يزال يراوح في اعتماده على لغة خطابية تجاوزها الزمن. وتُشكل هذه المرحلة التي يكتب فيها هذا «المثقف النخبوي»؛ ويترفع عن الآخرين في مصطلحه وإدارته لمفاهيمه وتداوله لقضايا الأزمة الحقيقية التي تتيح لمثل هؤلاء الهامشيين فرض محاولاتهم بين تجارب المبدعين. وفي الحقيقة، فإن الأزمة تتفاقم مع بروز ظاهرة التدجيل والتنظير في تناول الأدب والفكر، الذي جعل غالبية الناس عندنا، «نخبويين»، على حسب فهم كل واحد منهم لهذا المصطلح الافتراضي، بحيث لم تعد هناك حدود تفصل أو تفرق بين تجارب المبدعين ومحاولات الهامشيين، الذين يحاولون إثارة الانتباه بإلغاء رموز رجالات الفكر والأدب «الحقيقيين»، من دون وجود مبررات موضوعية سوى الرغبة بالتشهير وتسجيل المواقف العشوائية، التي لا تقتل في النهاية سوى أصحابها. ان «مثقف النخبة» هذا، عادة ما يمثل آمال «النخب» التي يطربها وتطرب له، بعيداً من المثقفين الحقيقيين «المبدعين»، الذين يتناولون آمال الأمة وتطلعاتها. فمثقف النخبة يحب نفسه، ولا يتطلع إلا إلى ذاته المريضة بهذا الوهم، ولا ينشط إلا بمقابل، مثل مثقف السلطة الذي يمثل السلطة، فهو منظّرها ومرشدها، يبرر لأخطائها، ويبحث عن مخرج لمأزقها، بعيداً من ضمير الأمة ونبضها، وهذه النموذج يبقى بريقه ما بقيت السلطة، وينتهي بانتهائها. أما المثقف المبدع فهو مثقف الأمة، وقلبها النابض وضميرها الحي وعقلها المفكر،، يعمل لرقيها ونهضتها، فهو كالشمعة التي تحترق لتبدد ظلمة الأنانية والجهل والظلم والاحتكار والاستبداد، يمثل آمال الأمة وتطلعاتها، ويحفظ قيمها ومبادئها، يتصدى لهجمات الأعادي الفكرية التي تستهدف هوية الأمة، منافحاً ومدافعاً عن خصوصية الأمة وهويتها، فهو يتفانى للحرص على الوطن والمواطن معاً. والمثقف المبدع هو الذي يلتفت إلى مجتمعه وقضاياه وآلامه ويحمل خطابه الثقافي هوية المجتمع الذي ينطلق منه ويعالجه. فمن هنا تكمن معاناة المثقف والمفكر في مجتمعاتنا، من أنانية هذا «المثقف الأناني» ومن التسلط العام والشامل في تلك المجتمعات، فأصبح من الطبيعي جداً أن تجد مثقفين وإعلاميين مكبلين فكراً ومقيدين منهجاً. لقد قيل إن «الإنسان ابن بيئته»، لذلك أفرزت تلك البيئة نماذج من مثل هؤلاء، منهم «مثقف السلطة، ومثقف النخبة؛ ومثقف الحزب، ومثقف السلطان. ومثقف القائد»، ولكن؛ للأسف تم تغييب مثقف الأمة، الذي تتجسد في فكره وثقافته، آمال الأمة وطموحاتها، ومشاريعها، وهذه النوعية (أي مثقف الأمة)؛ لا تنشأ إلا في أجواء تنعم بالحرية والشفافية. وهذا النوع من المثقف يندر وجوده في مجتمعاتنا، فمثقف الأمة هذا يمثل بوصلة الاستشعار، فهو يعيش من أجل «فكرة» يسعى لنشرها، ويظل يقاوم من أجلها، وقد يموت لتحيا. إذاً، المثقف المبدع هو روح الأمة، وسر نهضتها، وقائد مسيرتها، فالأمة من دون ذلك المفكر والمثقف، كالقطيع من دون راع... المثقف المبدع يظل هو المفكر الذي يؤثر في وجهة الأمة وتطورها وقوة نهضتها. إن ما تعج به الساحة العربية من أسماء تبرز على صفحات الجرائد والمجلات وفي الفضائيات، هم أشباه لذلك «المثقف النخبوي»، فهم يتأثرون بمن حولهم أكثر مما يؤثرون، ويغيرون خط سيرهم ونهج تحليلهم ألف مرة، ولا تجد لهم أثراً في نهضة الأمة ومجريات الأحداث، فهم أشبه بالراقصة التي تميل إلى التصفيق الآتي من جهة أكثر من جهة أخرى. خلاصة القول إن الناس متساوون في تكوين الثقافة وصورة الإعلام العام، كل من خلال موقعه وتفاعله ودوره في الحياة الإنسانية، من دون النظر إلى الفوارق الأخرى المكتسبة. أما من جانب آخر عندما نتحدث عن المثقف المبدع في المجتمع، فإن الوضع يختلف، حيث لا بدّ في الأخير من اعتبار الفوارق المعرفية والفكرية والعقلية والسلوكية لتحديد المثقف الذي نقصده. فالناس سواسية أو شركاء في تكوين الثقافة، ولكن هذا لا يعني أنهم جميعاً مثقفون مبدعون، لأن المثقف الحقيقي (المبدع) هو الذي يتفاعل مع المخزون المعرفي والتراكمي الذي قامت عليه ثقافة المجتمع، وينقله من دائرة الخمول والجمود إلى دائرة الحراك والنشاط والتفعيل. فهذا المثقف دوره يتجاوز المساهمة في تكوين ثقافة المجتمع المسيطرة، فهو يمثل بوصلة الاستشعار للأمة وعنوان تعريفها وسط الأمم، وسر نهضتها، وخط دفاعها الأول. وهذه الأدوار لا يمكن أن تقوم بها «شريحة النخبويين» في المجتمع، كما يحلو لبعضهم أن يجمع أكبر عدد من الأسماء على صفحات جرائده، أو مواقعه الإلكترونية، هذا صاحبي وهذا مقرب مني، وهذا يخصني، وهذا بايعني، وذاك جاري، وتلك معجبة، وأحدهم نديمي، والآخر صهري أو نسيبي، من صفات التقرب والتحبب لنشر محاولات الهامشيين. ولعل سوء الحال الذي نعيشه في مجتمعاتنا؛ يعود إلى غياب المثقف النوعي الذي يحمي الأمة في فكرها وقيمها وأخلاقها وسلوكها، ولعلنا نصبح كالمثل القائل: «إذا غيبنا القط تركنا للفئران مجالاً واسعاً للركض واللهو في بيوتنا، مما سيسمم مأكولاتنا وأوانينا، وينغص علينا عيشنا». ففي هذه الثورات التي تشتعل في الوطن العربي، وغياب المثقف عنها من دون مبرر مقنع: هل هناك من يشاركنا هذا الطرح الحيوي الذي يربط المثقف بهوية المجتمع، وبمسؤوليته التاريخية ودوره في الإصلاح السياسي والإداري، والتغيير الناضج والواعي لواقع الأمة؟