مع إعلانها فوز ثلاثة علماء من جامعات أميركيّة بجائزتها للفيزياء، قدّمت «الأكاديمية السويديّة» لحظة آخرى من تألّق المركز الأميركي في العلوم المعاصرة، وكذلك تفاعله مع العالم بأسره. إذ كوفئ البروفسور راينر ريس (نصف الجائزة) والبروفسوران باري باريش وكيب ثورن (تقاسما النصف الآخر)، لأنهم أثبتوا للمرّة الأولى أن الجاذبيّة تسير في موجات تشبه أمواج البحر، عبر أعمال جسّدها مرصد «ليغو» الأميركي. وإنصافاً، شارك مرصد أوروبي إسمه «فيرغو» في تقصي ذلك الكشف الذي اعتبر حاسماً في تاريخ الفيزياء، مع ملاحظة أن العلماء الثلاثة ينسّقون أعمالهم في المرصدين معاً. وتتكوّن كلمة «ليغو» من الحروف الأولى لعبارة Laser Interferometer Gravitational-wave Observatory (LIGO) أي «مرصد تداخل موجات الجاذبية العامل بالليزر». وفي 2016، أعلن المرصد إنجازه في التقاط موجات للجاذبيّة صدرت عن تصادم كوني هائل بين ثقبين أسودين قبل 1.3 بليون سنة، وتساوي قوّة الجاذبيّة في كل منهما ثلاثين ضعف ما للشمس من جاذبيّة! وكان العالِم الشهير آلبرت آينشتاين (ألماني، هاجر إلى أميركا) أول من نظّر لكون قوة الجاذبيّة تسير في موجات، ما يجعلها شبيهة بالصوت والضوء أيضاً. وعبر مختبر ال «ليغو» الضخم في أميركا، تمكّنوا من التقاط موجات للجاذبيّة، بعد قرابة قرن من أعمال آينشتاين النظريّة عنها. ويعمل الألماني- الأميركي ريس (ولد في ألمانيا، عمره 85 سنة) في «معهد ماساشوستس للتقنيّة». ويعمل باريش (أميركي المولد، عمره 81 سنة) في «جامعة كاليفورنيا للتقنيّة»، وهي الجامعة التي كان يعمل فيها البروفسور أحمد زويل عندما نال «نوبل» للكيمياء. يدرّس ثورن (أميركي المولد، 77 سنة) في الفيزياء النظريّة في «جامعة كاليفورنيا للتقنية» أيضاً. وبفضل مجسّات مرهفة وتصميم علمي دقيق يرجع الفضل فيها إلى الفائزين الثلاثة، تمكّن البشر من التقاط موجات الجاذبيّة للمرّة الأولى. وعندما أُعلِن ذلك عام 2016، اهتزّ العالم ذهولاً من الدقّة الهائلة، ولأن العقل العلمي الإنساني سار خطوة جبّارة في فهم ماهية الجاذبيّة. وعلى رغم كونها أهم قوى الكون وأكثرها انتشاراً وفعلاً، بل إنها سبب ترابط أرجائه بعضها ببعض، لا تمثّل أمراً مفهوماً ماهيّته تماماً للعلماء. وبين عامي 1994 و2002 موّلت «المؤسّسة الوطنيّة (الأميركيّة) للعلوم» مرصد «ليغو» بسخاء. ومنذ 2015، شارك في تمويله أميركا وبريطانيا وأستراليا فتجاوزت موازنته نصف بليون دولار. في تلك السنة عينها، التقط المختبر موجات الجاذبيّة للمرّة الأولى، لكنه لم يفرغ من تحليل بياناته عنها إلا في مستهل عام 2016. ويتكوّن «ليغو» أساساً من نفقين طويلين يتقاطعان مع بعضهما بعضاً بزاوية 90 درجة. ويطلق في كل نفق خيط من أشعة الليزر، فيتعامد مع خيط مشابه آتٍ من النفق الآخر. وترتد موجات من ذلك التقاطع، إلى مجسّات في طرف كل نفق. وبذا، يشبه «ليغو» ميزاناً حساساً كفّتاه هما النفقان المتعامدان. وإذا ضربت موجة جاذبية أحد خيطي الليزر، يهتزّ الخيطان معاً. ويمتد نفقا الليزر ل «ليغو» بين مدينتي هانفورد وليفنغستون الأميركيّتين، عبر مسافة 3000 كيلومتر. هل يصل إلى أسماع الرئيس دونالد ترامب أن مرصد «ليغو» يعمل فيه قرابة ألف عالم ينتمون إلى عشرين بلداً، وهو يعطي نموذجاً عن أهمية التدفق العالمي إلى المركز الأميركي؟ ألا يفسر ذلك أيضاً تلك النفرة المتوجسة التي أحس بها المجتمع العلمي الأميركي، بل أعلنها بوضوح، عندما نجح ترامب المعروف بحساسيّته من المجتمع العلمي الأميركي، بل إنّه يفضل الإصغاء إلى تدفق الأموال والمصالح والعسكر أيضاً؟ ماذا عن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، مع معرفة أن أوروبيّاً مهاجراً وضع الأساس النظري لموجات الجاذبيّة، وآخر (ريس) بذل جهوداً استمرت منذ سبعينات القرن العشرين، فمهّدت للمسار الذي أفضى إلى توصّل البشريّة بأسرها إلى سبر أغوار الجاذبيّة؟ في الكلمات السابقة، ظهر الاكتشاف العلمي بوصفه إنجازاً لمجتمع علمي عالمي تدعمه مجتمعات متقدّمة. وعندما يصحو عربي ما ذات صباح ليسمع أنّ عالماً في بلده اكتشف ما عجز عنه «الغرب وعلماؤه»، فليس عليه إلا أن يغسل وجهه مرّة اخرى، فلربما كان الأمر جزءاً من كابوس يأبى أن يتزحزح!