قبل سنوات جمعني وأصدقاء وزوجاتنا عشاء في أحد فنادق لندن الكبرى. وخرجنا في حوالى الحادية عشرة ليلاً، لنفاجأ بمتظاهرين أمام الفندق استقبلونا بهتافات معادية وبعض الشتائم. وكان هناك رجال شرطة قالوا ان المتظاهرين ينتظرون خروج المشاركين في عشاء سنوي لتجار الفرو، وقلنا للمتظاهرين اننا مجرد سيّاح عرب ولا علاقة لنا بتجارة الفرو، وهم كفّوا عنا. وقفنا نتفرج لأننا كنا رأينا ضيوف العشاء السنوي يستعدون للخروج، وهم استقبلوا بهتافات صاخبة ولافتات ترفع صور حيوانات مسلوخة، ورجال الشرطة يتفرجون من دون أن يتدخلوا لأن المتظاهرين يمارسون حقهم في حرية الرأي والكلام. كنت وصديق نقف قرب سيارة حاولت امرأة دخولها وهي ترتدي معطفاً طويلاً من الفرو، إلا ان متظاهرة اعترضتها وبصقت عليها، وتبعها متظاهر ركل جانب السيارة بقوة. وبسرعة اعتقل رجال الشرطة الباصقة والراكل لأن تصرفهما تجاوز حريتهما الشخصية الى حريات الآخرين. لم أكن بحاجة الى ذلك المشهد لأعرف حدود المسموح به والممنوع في إنكلترا، فقد عملت رئيس نوبة في وكالة رويترز في بيروت، وتدربت في شارع الصحافة (فليت ستريت)، ولعلي درست القانون أكثر من الصحافة لأنهم في الغرب يخافون قضايا القدح والذم التي قد تكلف مئات ألوف الجنيهات عبر الأحكام ونفقات المحامين. ومعرفتي بالقانون، مع بعض الحظ، جعلتني أفوز بقضية قدح وذم رفعتها، وبقضية رُفعت عليّ، كما رفض مجلس الشكاوى الصحافية شكوى سفير اسرائيلي على «الحياة» وعليّ معها بصفتي رئيس التحرير في التسعينات. ومثلاً أنا أعرف أنني إذا هاجمت رجلاً فهو رأي، وحقي، وإذا هاجمت شعباً، فهو عنصرية أعاقب عليها. وإذا قلت عن وزير انكليزي انه حمار فهو رأي، أما قولي لصّ فمعلومة أثبتها أو أخسر. المتظاهرة أمام الفندق عادت إليّ في نهاية الأسبوع وأنا أقرأ خبراً داخلياً أميركياًَ أثار ضجة كبيرة خلاصته ان أتباع كنيسة وستبورو المعمدانية تظاهروا أمام جنازة ماثيو سنايدر، وهو جندي أميركي قتل في العراق، ورفعوا شعارات تقول «الحمدلله على موت الجنود» و «الشاذون جنسياًَ يأتون بالتهلكة للأمم» و «الله يكره الشاذين» و «القسس يغتصبون الأولاد». ورفع البرت سنايدر، والد الجندي المتوفى، قضية على فِرْيد فيلبْس، رئيس كنيسة وستبورو، بحجة انه انتهك حريته الشخصية، وحقه في تنظيم جنازة ابنه بعيداً عن أي تدخل خارجي، وقضت المحكمة بأن يدفع فيلبس لسنايدر 10.9 مليون دولار تعويضاً عما سببه له من أذى نفسي وحزن. فيلبس استأنف قرار المحكمة الدنيا أمام المحكمة العليا، وهي قضت بغالبية ثمانية ضد واحد بنقض قرار المحكمة الأولى، وتأييد حق فيلبس في ابداء رأيه بموجب التعديل الأول للدستور الذي ضمن حرية الكلام. حدث هذا مع ان كنيسة وستبورو طالبة شهرة بوضوح، كما قال القاضي الوحيد المعترض صموئيل اليتو، فأعضاؤها وهم لا يتجاوزون 70 شخصاً كلهم تقريباً من أقارب رئيسها فْرِيد فيلبس، وقد اعتادوا التظاهر أمام جنازات الجنود القتلى وضد أحاديي الجنس الذين يستخدمون في وصفهم كلمات عدائية تحقيرية تهبط الى درك الشتائم. يبدو أن فيلبس يعرف القانون الأميركي كما أعرف أنا قانون القدح والذم الانكليزي، فقد تظاهر وجماعته على بعد ألف قدم من جنازة الجندي، والقانون ينص على التظاهر على بعد مئة قدم على الأقل، فكان أن أيدت المحكمة العليا قوله انه لم يتدخل في خصوصية الجنازة. ما يعنيني شخصياً من القوانين في الغرب هو الجزء الخاص بقضايا القدح والذم، وقد وجدتها تميل الى جانب المدَّعى عليه، في الولاياتالمتحدة والمدَّعي في بريطانيا. يكفي لأربح قضية في لندن ان أثبت ان ما كُتِب عني كان خطأ، أو أترك للطرف الآخر أن يثبت ان ما كتبه صحيح، فإذا عجز خسر. في الولاياتالمتحدة لا يكفي أن أثبت ان ما كُتِب عني خطأ، فحرية الكلام بحسب التعديل الأول للدستور واضحة، والمدَّعِي عليه أن يثبت ان الخطأ في ما كُتِب عنه كان متعمداً، أو أنه تسبب له في خسائر مالية كأن يفقد صفقة أو عملاً، ونادراً جداً أن تقرر محكمة غرامة عقابية، أي عقاباً على ما قال المتهم أو كتب. هذا يعني ان كل من يريد رفع قضية قدح وذم يرفعها إذا استطاع في لندن التي أصبحت مقصد «سياحة القدح والذم»، والراحل خالد بن محفوظ ربح كل القضايا التي رفعها في لندن، من اتهامه بتأييد الإرهاب وغير ذلك، وهي قضايا ما كان ربحها في الولاياتالمتحدة. [email protected]