إنها حقيقة شعرية تلك التي تجعل الحالِم يصف الخط المنحني أو المقبب بالدفء. هل يستطيع أحد أن يتهم الفنانة منى السعودي بالمغالاة حين تقول إن لأعمالها ذاكرة شعرية، أو حين تزاول تجاربها على سطوح تتنوع حواملها بين الورق والحجر، كما تتنوع ينابيع مصادرها وإلهاماتها، كي تعكس رؤيتها الفلسفية الخاصة بالطبيعة والكون والوجود. ولطالما وجدت منى السعودي في الشعر الحلم الذي تبحث عنه يداها في الفن. وإطلالة منى السعودي في معرض ضخم يقام في غاليري صالح بركات (كليمنصو- شارع جوستينيان- لغاية 28 تشرين الأول/ أوكتوبر)، يتمحور حول العلاقة بين نتاجها الفني وقصائد الشعراء، ويضم أكثر من مئة عمل يعود تاريخها إلى ما بين 1995- 2017، ومنها ما يرجع إلى مرحلة السبعينات، وهي مرتبطة بقصائد لمحمود درويش وأدونيس ويانيس ريتسوس، يضاف إلى تلك القائمة تنويعات من الرسوم منبثقة من وحي قصيدة سان جون برس «نشيد اعتدال»، بترجمة ادونيس التي عادت إليها منى السعودي بعد أن قراتها منذ 40 عاماً لتكتشف أغوار ما حفرته هذه القصيدة في أعماقها :»أعرفُ، رأيتُ: الحياة تصعد إلى ينابيعها والصاعقة تلمّ أدواتها من المقالع المهجورة.. ينهض فينا نشيد لم يُعرف منبعه، ولن يكون له مصب في الموت: اعتدال ساعة بين الأرض والإنسان». بدأت الرسوم بتخطيطات تلقائية بالريشة والحبر، ثم أعيدت طباعتها على طريقة السيريغرافي (ضمن 77 طبعة أصلية)، وفي هذه الطبعات تَظهر القصيدة نفسها بعشر لغات من أنحاء العالم، احتفاءاً بمجد الشعر: «وما زال الشاعر حاضراً بيننا». فالكلمة معمّرة وكذلك كتابة الريح على وجه الحجر. «لأن الشعر براءة العالم» كما يقول هولدرلن، هكذا كان استهلال الرسوم المرافقة لقصيدة البتراء لأدونيس: «يد الحجر ترسم المكان»، في سفر الخطوط ذاتها إلى المجهول، حيث الإشراقات المتوهمة للطفولة البعيدة لذاكرة النهر، حيث ترسم الشواطئ زيوحها التي تتلوى، وترسل الأنهار مسارات هبوطها في خطوط لولبية إلى وديان الأرض، وعيون تراقب تحولات الأمكنة والناس والأشياء. هكذا يمسي الشعر مساراً للبوح وخلجات المشاعر، ومحفّزاً لكل ما لا يُقال، ليس لأن القصيدة متصلة عضوياً وبيانياً بالرسم أو بالمنحوتة، بل بالعكس لأنها منفصلة عنهما، فإن هذا الانفصال هو العصيان بحد ذاته أو الذريعة الظاهرة للعامة، هو بالضرورة مجاز الحرية، حرية الفنانة أن تقرأ الشعر وتنسخه بخط يدها أو تستوحيه في منحوتاتها وهي تكتب قصائد أخرى، بملامح أشكالها وتنقشها وترصّعها بالضوء. ومن ضمن الاستعارات الشعرية ذاتها بالإمكان أن نرى نساء الأرض وحركة الطيور، أن نرى أقماراً وشموساً وهياكل مدن وشلالات مياه تتدفق على الوديان. إذ بلغة الرموز وحدها وقوة إيماءاتها، بالإمكان أن يروي الحجر الملازم لصفة الجماد سيولة الماء وحركة الأنهار وضياء الشمس ونهوض الأشجار وحكاية الجسد ويقظة الحواس. ليس عبثاً انعطاف التكاوين إلى الداخل في أعمال منى السعودي رسماً ونحتاً، بل يعكس سطوة الشعور بأمان الخطوط الحانية، وأسرار تكاوين الحروف التي تعيدنا الى ذاكرة حرف النون الذي هيمن بتقاطيعه وتردداته الهندسية على حقبة من نتاج السعودي، يضاف إلى تلك الذاكرة، تيمات أخرى كحركة خطوط الأصابع، وتكاوين المرأة والأرض- الأم وانحدار النهر والتحام الجسد الإنساني بالأرض في التعبير عن المقاومة (والجرح الفلسطيني على وجه الخصوص). ثمة مفردات أضحت راسخة في بنائية منحوتة منى السعودي، القائمة على هندسة الشكل التجريدي، بوصفه كتلة وبوصفه فراغاً وخطوطاً لمحيط الأحلام وكونه حجراً من قماشة تخاريم الطبيعة وألوان ترابها ونقوش رياحها. وكأن العمل وهو يتردد في مدارات الرؤية يخاطب فكرة أو مفردة مجردة من تفاصيلها، لكنها تأخذ المعنى الغيبي إلى حقيقة جمالية أقرب إلى الواقع (كتأويل) منها إلى المجرد لنفسه. هكذا بالإمكان النظر إلى بوابات المدن التاريخية بألوانها الترابية المشرّعة على المدى الصحراوي، وحكايات رحيلها واختفائها. لا يبتعد الرسم من النحت بل يدور في أفلاكه، يتناسل منه ويتكاثر من سلالات الضوء والظل والحركة والسكون حيث تتقاطع شطور القصيدة وأحبارها. فالرسم هو كتابة من نوع آخر، أو محفور بلغة اخرى قوامها الشكل المتجرّد والحيّ والنابض. هكذا يأخذ التجريد في رسوم منى السعودي رحابة العلاقة بين الأطباق (وتر وقوس) والأخاديد المنكسرة والأصابع المطبقة على زنود المتسطيلات المقفلة على ذاتها وعزلتها، وأشكال العيون والرؤوس وعناق العاشقين، لا سيما الشكل الهلالي بأبعاده الروحية المستمدة من الذاكرة الشعبية الذي يظهر في خلفيات كلمات الشاعر محمود درويش «أرتديك وأخلع الأيام. لا تاريخ قبل يديك. لا تاريخ بعد يديك». تستعير منى السعودي الشعر دوماً حتى أضحى من أدواتها اللازمة للعمل، وهي تروي وتكتب وتختزل وتستحضر الألوان والقامات وزغاريد الأرض وتحلم بالأشجار ورائحة البرتقال وغصون الزيتون وأناشيد المدى.