حين أصدرت منى السعودي كتابها ( أربعون عاما في النحت) قبل ثلاث سنوات، وضعت فيه أوراقها وقصائدها والكثير من صور منحوتاتها، وأبرز ما كُتب عنها. وهذا تقليد غربي، ولكنه بدا كما لو أنه نظام حياة اعتادت عليه الفنانة: أن تكون عملية وصارمة وتتحلى بطباع المادة التي يمر عليها إزميلها، فالأحجار عند منى السعودي كائنات تدخلهن في محترفها كي يختبرن النظام قبل النطق. تعيش في زاوية هادئة ببيروت، وداخل بيتها تتناثر منحوتاتها ورسومها، وفي الحديقة والممر وتحت سقيفة تضع أدوات نحتها وأحجارا نصف مكتملة وأخرى مر عليها الزمن وهي في وقفتها تنتظر من ينطقها المعنى، ويبعث فيها ديمومة الفن. لابد ان تكون لكل قطعة تشتغل عليها الفنانة قدر من المهابة، أنها تشد على الثقل في أحجارها كي يلين، تدخل الى فراغه لتصقله وتعرّضه الى ضوء العري، ولكن العري لايصرف عن الجلال. كائناتها تتوهج وتموج بشفافية انحناءاتها وتحتفي بكبرياء اللحظة التي تجابه بها العين. ما يمكن أن يصل اليه فنان من التيقن بخصيصة معينة يملكها، إنما يدل على الطبيعة الفكرية لموضوعه، ومنى السعودي ترى انها تملك القوة الروحية والجسدية والفكرية التي تجعلها تصل بالمجاهدة الى مبتغاها. النحت هو خيار وطريقة في الحياة، كما تقول، النحت عمل شاق، ولكنه يحّول المادة الى طاقة ، فهو تمرّكز وتأمل وبحث. كي تكون نحاتا ينبغي أن يكون لديك الإيمان الذي يجعلك تهب نفسك صافيا لهذا العمل هكذا تكتب في دفترها يتطلب النحت العزلة والتخلي والسفر الى الداخل. المنحوتة تلد الأخرى، وعناصر اللغة التكوينية تتكرر وتتغير وتتوالد وتتوالى: كأن النحت تجسيد للسر والغموض كأنه جسد للشعر والروح وهو سفر في اللامرئي. منى السعودي التي هاجر والدها من الحجاز ليستوطن الأردن، يطيب لها التحدث عن بلاد الشام، انتسابا لايتحدد عند موقع معين، فصلتها بفلسطين قرابة وانتماء الى قضية، والأردن مولدها ولبنان مستقرها. كل ما اعتقدت انه جدير بالفن، لا ينفي المضمر السياسي في أعمالها، فالارض هي القضية وهي الأمومة والرحم الأول. شهدت منى الثورة الطلابية بباريس يوم كانت طالبة في البوزار، فحملت شعاراتها التي خطتها بيدها. أسألها ما الذي تركت فيك تلك الأيام. تقول إن الثورة الطلابية أشعرتني بأهمية أن أكون في المكان الذي كنت فيه، في الشرق الاوسط حيث النضال يتصل بكل قضايا الانسان. الثورة الطلابية أول حركة تضمنت نوعا من أفكار العولمة، كنت على اعتقاد في السابق بأهمية القضايا التي تشغلنا نحن أبناء المنطقة، وبينها قضية فلسطين، فقد شهدتُ هجرة عمتي المتزوجة من فلسطيني، وانطبعت في ذاكرتي آلام من يفقد كل شيء. لم تعلمني الثورة أبجدية النضال، ولكنها حسمت أمري مع باريس. كان بمقدوري أن أكون فنانة ناجحة في فرنسا، فقد اقمت معرضا عندما كنت طالبة، وكتب عنه النقاد، واشترى الناس أعمالي. رب صدفة او خيار توّلد عن قناعة بأن أكون هنا في البلاد العربية. أبعدني هذا الخيار عن أن أصبح فنانة عالمية، فقد فضلت العودة الى الأردن والذهاب الى مخيم فلسطيني، أستنطق الأطفال ما تركته الحرب على أناملهم، فأصدرت كتابا عن رسوم الطفولة في زمن الحرب. قدمت منى بيروت نهاية الستينات، يوم كانت ملتقى الحركات الأدبية والفنية. تعرّفت على ادونيس ومحمود درويش وحشد كبير من الفنانين والأدباء العرب، ونشرت قصائدها في مواقف والكرمل وشعر. ترفع رأسها الى سقف بيتها: شهد هذا البيت لقاءات ثقافية وسمراً يحتفي بالفن والشعر والأدب. ما الذي ينقص قصيدة منى السعودي كي تلجأ الى النحت، أو ما الذي ينقص منحوتتها كي ترحل الى الشعر؟. لا شيء. هكذا تقول معقبة، فقد بدأت التشكيل والشعر في وقت واحد، وأنا على إيمان بترابط الحالين. عندما أوقّع على الحجر، أكون قد كتبت قصيدتي بالأزميل. هل الحقيقة الفنية تركيب فكري، وهل كان لعالمها الأدبي علاقة بما نحتت وتنحت؟ إن ما تؤمن به يقوم مقام الاختبار بالعين، اي التجربة الذاتية، ولكن أن تخطو أبعد منه، فهي قضية تحقق وفرادة. ولعل ما يشغلها من الفكرة الصوفية وحدة الوجود: كل شيء يرتبط بنظام الروح الأعلى، هكذا ترى الى نفسها وفنها. كان المساء يطل من نافذتها، وسكينة تغادر الوقت في هذا المكان. صمت التماثيل ترقبه أشجار الحديقة، وبضع أحجار تنتظر أزميلها. تقول إنني عندما أصل الزمن الذي لا أستطيع تطويع الحجر، ولاتساعدني يداي على حمل آلة الحفر، سأتفرغ الى الرسم والشعر.