دأبت الرسامة والنحاتة الأردنية منى السعودي على قراءة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس منذ السبعينات، وكانت تحلم دوماً بأن تستوحي عالمه الشعري الذي افتتنت به، في رسوم ومخططات تنبع من قلب تجربته الفريدة. وبعد أعوام من قراءتها قصائده باللغة الفرنسية ثم بترجمة الشاعر أدونيس، شرعت في تحقيق حلمها وراحت ترسم من وحي هذا الشعر أعمالاً بالحبر ذات منحى تصويري وتجريدي في آنٍ واحد. وقد ركّزت على قصيدة طالما أحبتها هي «نشيد اعتدال» وعملت عليها وأخرجتها، بريشتها ومخيّلتها قصيدة بصرية، مرسومة بالإحساس الداخلي والحدس. وكانت خلاصة هذه المغامرة 13 لوحة باشرت الفنانة بعرضها أمام الجمهور في محترفها البيروتي الذي تحوّل الى صالة فنية، وحمل المعرض عنواناً طريفاً هو: «وما زال الشاعر بيننا». هنا رسمان من المعرض وقصيدة «نشيد اعتدال» كما عرّبها أدونيس. كان رعدٌ في ذلك المساء، وعلى الأرض ذات القبور كنت أسمعُ دويّ هذا الردّ على الإنسان، كان موجزاً، ولم يكن إلا قصفاً. كان معنا، يا صديقة، وابلُ السماء، وليل الإله كان جوّنا المتقلب. وفي الأمكنة كلها كان الحبّ يرتقي الى ينابيعه. أعرفُ، رأيتُ: الحياة تصعد الى ينابيعها، والصاعقة تلمّ أدواتها من المقالع المهجورة، غُبارُ الطلع الأصفر في أشجار الصنوبرِ يحتشدُ في زوايا الشرفات، بِذارُ الله يمضي لكي ينضمّ في البحر الى علقِ البحرِ وطبقات مائه البنفسجيّة. أيها السيّد، يا سيّد التراب، ها هي تُثلجُ، السماءُ طلقةٌ، والأرضُ حُرّة من كل رحل: أرضُ سيث وشاوول، شي هوانغ - تي وشيوبس. صوتُ البشرِ من البشرِ، وصوتُ البرونزِ في البرونز، وفي مكان من العالم، حيثُ لم يكن صوتٌ للسماءِ ولا حارسٌ للعصر، وُلِدَ في العالم طفلٌ لا يعرفُ أحدٌ سلالته ولا مكانتهُ، والعبقريةُ تسقُطُ واثقةً على فُصوصِ جبهةٍ نقيّة. أيتُها الأرض، أمّنا، لا تأبهي لهؤلاءِ الرّعاع: العصرُ مفاجئ، العصرُ حاشدٌ، والحياةُ تجري مجراها. ينهضُ فينا نشيدٌ لم يُعرف منبعه ولن يكون له مصبّ في الموت: اعتدالُ ساعةٍ بين الأرضِ والإنسان.