التزمت واشنطن الصمت حيال احتجاجات الغضب العراقية، فلم يصدر أي موقف من وزارة الخارجية ولا من السفارة الأميركية في بغداد حتى بعد مقتل عدد من المحتجين في مدينة الكوت جنوب البلاد أو في السليمانية شمالها، ولاحقاً في بغداد والموصل وتكريت والبصرة. وذلك على رغم أن واشنطن كانت شددت عبر مواقف للرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على أن تراعي دول عربية شهدت تظاهرات احتجاج، حق المواطنين بالتظاهر وعدم استخدام العنف بحقهم كما هي الحال في احتجاجات القاهرة والمنامة. ويبدو أن حرجاً كبيراً تلاقيه واشنطن، فهي في الوقت الذي ما انفكت تحاول تسويق العراق كتجربة للديموقراطية في الشرق الأوسط، يصعب عليها أن تجد حلفاءها في حكومة المالكي وهم في مواجهة مع المتظاهرين المحتجين على سوء أوضاع بلادهم والفساد الضارب في كل سلطاتها، بحسب تعبير رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي متوعداً الفاسدين بالمحاسبة ومحملاً إياهم ضياع نحو 40 بليون دولار خلال السنوات الماضية. ولتقليل هذا الحرج تبرز أصوات أميركية تصريحات رئيس الوزراء العراقي الذي اعتبر التظاهرات حقاً مشروعاً، وترى في ذلك خطوات متقدمة على تلك التي شهدتها دول عربية أخرى. فتلفت صحيفة «نيويورك تايمز» الى أنه «مع الكثير من عيوب ديموقراطية العراق الفتية، فان الحكومة أعطت الناس حقوقاً أكثر قياساً بأماكن أخرى مثل مصر وتونس أو ليبيا وبعد كل شيء فإن 60 في المئة من الناخبين العراقيين شاركوا في الانتخابات الوطنية التي أجريت في آذار (مارس) الماضي التي تم اعتبارها حرة وعادلة على نطاق واسع». وعلى رغم مؤشرات تضييق كثيرة تحملها الأخبار يومياً من بغداد التي شهدت الأربعاء مداهمات لمراكز معنية بحرية الصحافة والتعبير، فضلاً عن اعتقال ناشطين في عدد من المدن العراقية إلا أن الأصوات الأميركية تؤكد أن «رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ساند حقوق المحتجين علناً لحد الآن على رغم تحذيره من استخدام العنف». وفي حين تنقل صحيفة مؤثرة في أوساط الرئيس أوباما من الديموقراطيين مثل صحيفة «نيويورك تايمز» أنباء حول تعرض بعض الاحتجاجات للعنف إذ تلفت الى «مقتل خمسة متظاهرين على الأقل في اشتباكات مع القوات الأمنية الخاصة والعامة ومن المعتقد انه تم جرح واعتقال أعداد أخرى»، إلا أنها تحاول التخفيف من قوة الاحتجاجات بالقول: «كان هناك حديث في الشوارع في كثير من الأحيان عن احتجاجات ضخمة لكن ولحد الآن لم يحضر التظاهرات سوى بضعة مئات». ومع أن تظاهرات «يوم الغضب» في 25 شباط (فبراير) شغلت غالبية العراقيين طيلة الأيام التالية، فكانت مادة لنقاشاتهم في الشوارع والمقاهي ومحطات التلفزة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً «فايسبوك»، وفتحت بريقاً من الأمل عند البعض وألقت بظلال الخوف عند البعض الآخر وأنعشت روح التهكم عند سواهم، إلا أن الأصوات الأميركية تصر على أن ذلك الغضب «فشل في الحصول على الكثير من الجذب هنا». وفي حين كتب أكثر من صحافي ومعلق أميركي يتواجدون في بغداد، مؤكدين على الطابع الخدماتي للاحتجاجات لجهة «دعوة الحكومة للقيام بتوفير الكهرباء في شكل أفضل، وتوفير فرص عمل أكثر، والمناداة بأبعاد المسؤولين المحليين الذين يؤكد المحتجون أنهم فاسدون، والمطالبة بحقوق أكثر للأرامل والأيتام, لم ترد إلا إشارات قليلة منهم على الاحتجاجات التي كانت بدأت قبل ثلاثة أسابيع وانطلقت بشعار «الحريات أولاً». وكانت تلك الاحتجاجات بدأت اثر تحول مجلس محافظة بغداد وغيره من المجالس المحلية التي يسيطر عليها «حزب الدعوة الإسلامية» بزعامة المالكي الى اتخاذ قرارات وصفتها قيادات ثقافية وحقوقية ناشطة في مجال الحريات بانها «تعمل على تحويل بغداد الى قندهار» عبر «فرض أنماط من السلوك والتعبير تتعارض مع الحريات التي كفلها الدستور» بحسب تلك القيادات. وعلى رغم إشارات أوردها تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» بأن القوات الأمنية العراقية اعتقلت نحو 300 شخص من العراقيين بينهم صحافيون بارزون وفنانون ومحامون شاركوا في التظاهرات التي انتظمت في العراق كله، وان وصفها هذا التصرف من قبل الحكومة بانه «عملية قصد منها إخافة مثقفي بغداد الذين لهم تأثير في الرأي العام» إذ تمت مطاردتهم والإحاطة بهم بعد مغادرتهم ساحة التحرير التي تظاهر فيها الآلاف، وقيدت أيديهم وعصبت أعينهم وضربوا من قبل جنود وحدة الاستخبارات العسكرية، إلا أن الصمت الأميركي الرسمي حيال الاحتجاجات العراقية ظل ثابتاً. ورأى مراقبون وصحافيون عراقيون أن الموقف الأميركي نابع من حاجة واشنطن الى نظام مستقر في العراق يسهل لها الانسحاب من دون النظر الى الأثمان التي يعنيها هذا الاستقرار. ويقول الكاتب والصحافي في جريدة «العالم» البغدادية المستقلة أحمد سعدواي: «كان هناك اتفاق عجيب بين العدوين اللدودين: إيران وأميركا على القلق من هذه التظاهرات، وان اختلفت الأسباب، فأميركا الأوبامية، على ما يبدو، لا تريد أي فوضى تعرقل انسحابها. تريد نظاماً مستقراً ولا شأن لها بأثمان هذا الاستقرار». ويورد سياسي مقرب من رئيس «القائمة العراقية» اياد علاوي مثالاً على أن «واشنطن تريد استقراراً في العراق حتى وإن كان هذا على حساب الديموقراطية التي تؤكد أن العراق يثبت دعائمها». ويلفت السياسي الذي رفض الكشف عن اسمه أن «واشنطن رفضت الاعتراف بنتائج انتخابات آذار (مارس) الماضي بعد فوز «القائمة العراقية» كونها نتائج تقلب المعادلة الطائفية للحكم أي أن تكون السلطة للشيعة وفق منظور طائفي»، موضحاً أن ذلك الموقف يتعلق بصمتها حيال الانتهاكات الواسعة للتظاهرات والمحتجين. ويضيف «السبب نفسه ينطبق على صمت واشنطن خلال الاحتجاجات الشعبية، فهي لا تريد زعزعة العلاقة مع حليفها المالكي وعموم أركان السلطة في العراق اليوم، فالجميع يتذكر كيف استقتلت واشنطن من أجل أن يعود المالكي ضمن تحالف طائفي «شيعي» واسع لرئاسة الوزراء ضاربة عرض الحائط بنتائج انتخابات ديموقراطية هندستها هي ورعتها». لكن محتجين شباناً ممن شاركوا في تنظيم التظاهرات والدعوة إليها قالوا رداً على سؤال وجهته اليهم «الحياة» عبر مواقعهم على «فايسبوك» مثل «مجموعة نريد أن نعرف» و «بغداد لن تكون قندهار» و «العراق الجميل» وغيرها، إن الأمر يقرره الشارع العراقي بعيداً من تدخل واشنطن وموقفها وقللوا من الموقف الأميركي مستعيدين مثال الشباب المصري الرافض للمواقف الأميركية الداعمة له. وقالوا: «هناك احتجاج شعبي في العراق، والتظاهرات كانت عفوية على رغم إشارات الحكومة بأنها شهدت استخداماً من قبل البعثيين»، وأنها أثارت ردود فعل إيجابية من المرجعية الدينية التي أكدت حق المواطنين بالتظاهر، وأدخلت الخوف في قلوب الرموز السياسية الكبيرة، وأحدثت خلافات واضحة بين هذه الرموز سواء حول شرعية التظاهرات أو مطالبها أو أسبابها». وأكد هؤلاء أن «ما صدر عن الحكومة من إجراءات على مستوى الاستجابة لبعض المطالب المرفوعة، كان بينها إلغاء قرار رفع الرسوم الجمركية وتحويل مبلغ يقارب بليون دولار مخصصة لشراء طائرات أميركية حربية الى شراء القمح والرز والسكر لتوزيعها على المواطنين، وإصدار قانون تخفيض رواتب الرئاسات الثلاث والوزراء وكبار المسؤولين وإمهال المالكي 100 يوم لوزرائه كفترة للإنجاز وإلا فالإقالة جاهزة، ما هو إلا مؤشر على نجاح الاحتجاجات أيدتها واشنطن أم التزمت الصمت حيالها».