تتوارى عن العين الكثير من الأشياء والمخلوقات، إما لأننا استهلكناها وإما لأن عمرها انقضى، وإما لأننا غادرناها مللاً وعدم رغبةٍ فيها، بيد أن الأفكار أمرها مختلف، فهي حاضرة في جوهر العقل وربما شدَّتها للنفس عاطفة القبول لها، وأعظم من ذلك إذا بلغت تلك الأفكار درجة الاعتقاد وأصبحت في تلازم مستمر مع الروح وجوداً وعدماً، ولا أعرف أن الأفكار تموت إلا بولادة أفكار جديدة على رفاتها، ثم تستمر في البقاء دورة أخرى لا نستطيع التخمين بعمرها وامتدادها، هذه الطبيعة من الأفكار يجهلها الكثير من البشر، خصوصاً من يعانون سكرة الطغيان المالي أو السياسي، فيظنوا أن الأفكار تموت بموت أصحابها أو إرهابهم أو نفيهم من الأرض أو حبسهم في السجون، وهذه الممارسات التي نظن ظاهرياً نجاعتها إلا أن لحظة واحدة من التغيير أو زوال أسباب القهر تجعل من تلك الأفكار الخامدة لهباً يعود مرة أخرى للعقول والقلوب، والتاريخ حافل بشواهد كثيرة من أفكار نيّرة قمعت ثم ظهرت بعد حين، كبذور أزهار الربيع التي كنا نظن استحالة أن تبقى على قيد الحياة وسط الصحراء القاحلة، أما الأفكار الميتة فإن إحياءها لتبقى مؤثرة بين الناس، أشبه ببعث الحياة في من ثبت موته، فمع استحالة هذا البعث في التأثير إلا أننا يمكن أن نحافظ على بقاء الجسد ظاهراً مدة محدودة أمام أعين الناس، وأي تجاوز في إبقاء ما قد مات في الأصل، هو محاولة فاشلة ومراغمة للغير بقبول العفن ونتن الجيف بعد إن غادرته روح الحقيقة. هذه الطبيعة للأفكار ستبقى أمراً محيراً في نموها وتأثيرها وقبول العقول بها أو إنكارها، ومهما كانت طبيعتها فإن سحراً يجتاح الإنسان اسمه الأفكار الملهمة، وسحرها يظهر في الحياة والعمران، لا سيما إذا كانت تلك الأفكار وقود النهضة ودولاب التقدم، ولعلي في هذا المقام أن أتناول صورتين من تلك الأفكار الملهمة ذات التأثير السحري على الإنسان والمجتمع، أوجزها فيما يلي: أولاً: الأفكار الدافعة، وهي التي تكاملت في أذهان جيل اقتنع بها، واستطاعت أن تجيب على إشكالات العصر وانطلقت من مشكاة العقل من دون تضارب مع الغيب أو الطبيعة، هذه الأفكار العميقة في الوعي غالباً ما تكون وقوداً للعمل والانطلاق لأي تغيير رشيد، ولهذا كان الأنبياء والرسل والكثير من المصلحين يشتغلون على بنائها في الفرد، ولو استهلك هذا العمل حياتهم كلها، فنتائج هذه الجهود في الغالب مضمونة المنافع، ولا تلبث تلك الأفكار مع مرور الأيام والأجيال أن تصبح شعلة التغيير والتقدم، خصوصاً إذا كانت متجسدة في رمزيات عليا من أهل الصلاح والإصلاح، فإذا ذهبت شخوصهم بقيت أفكارهم مجردةً وناضجةً بذاتها، تبعث الإلهام في النفوس وتدفعها للحراك والتأثير، ومتى ما وُجدت تلك الأفكار في أي حضارة ومجتمع وجد معها التحضر والنهوض، لأنها غالباً ما تقوم على تحقيق القيم وتغرس السلوكيات الرشيدة وتدعو للإيمان والعلم والرفاه والعدل في كل مجالات الحياة، وسبق أن تحدث مالك بن نبي في أكثر من كتاب عن أهمية بناء تلك الأفكار الناهضة والدافعة للتقدم، وحمايتها من غزو الأعداء الذين يعرفون مقدار قوتها في التحدي والصمود، والبعث والنهوض، لهذا يواجهونها بمكر وخداع نفسي باهر، من خلال إيجاد أفكار متجسدة بشخصيات بديلة تضاف عليها هالة من القدسية الزائفة، أو وضع فضاء عازل حول الفكرة المجردة بشيطنتها والقائمين عليها، وكثيراً ما يُستخدم الدين ورجاله في إضعاف الأفكار الدافعة وجعلها أفكاراً ميتة لا جمهور لها من خلال سوط الوعظ البارد والنفاق الديني المندفع نحو بريق المال أو الحصول على منصب دنيوي، لكن أثبتت الأفكار أن قوتها لا تُضاهى بأي قوة مادية مها بلغت سطوتها (انظر: كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، لمالك بن نبي، نشر دار الفكر، الطبعة الثالثة 1988م، ص 15-17). ثانياً: الأفكار المحصَّنة. وهي الأفكار التي تجسدت فيها الحقيقة والصدقية، ولكنها تحصّنت من التنزيل والتوظيف السلبي الخاطئ ولم تتأثر بسموم وفيروسات النماذج الفكرية المميتة والقاتلة – كما عبّر عنها ملك بن نبي-، فالعالم الإسلامي بعد مرحلة الاستعمار التي قضت على استقلال العقول والنفوس، حتى مع تحرر الأوطان، ربط صحة الأفكار وسلامتها بشرط قدومها من الغرب، وهذا ليس هو الإشكال، فهناك الكثير مما في الحضارة الغربية يستحق النقل والاستفادة، ولكن في خطط التنمية والنهوض لدولنا العربية والإسلامية نغفل عن خصوصيتنا الثقافية والتاريخية ونستنبت في أرضنا مشاريع مختلفة في تصوراتها وأسباب نشأتها عن تربتنا الوطنية، ونعلق عليه آمالنا في التقدم والرقي، وعند نزولها الى الواقع تحدث المفاجآت والاخفاقات، فلو أخذنا على سبيل المثال قضية الفصل القطعي بين الديني والمدني، فإن الظروف التي أملته في أوروبا قد يكون لها ما يبررها عندما وقع الفصل، ولكن ليست لها المبررات ذاتها في بلادنا التي لا يتطلب الديني مصادمة العلم والطبيعة والحياة المدنية، إلا في بعض التفسيرات الخاطئة عن الإسلام، كما أن النقل الأعمى جعل من ضمن ما يجب فعله للتقدم، اقتباس الأعراف والعادات وخصوصية الثقافات وتمجيد الأيام المتعلقة بتاريخهم، واعتبار اللغة الأجنبية هي أداة النهضة فحسب، في حين أن كل ما سبق لا علاقة له بالتقدم، ولكنه يحكي طبيعة فريق التخطيط التنموي وطريقته المستلبة في المحاكاة التي تتجاوز الفعل الإنساني الحصيف نحو الفعل الآلي الذي يمارسه الروبوت من دون وعي وإدراك بالحاجات الواقعية والنفسية والأولويات المجتمعية، هذه الطريقة التي سماها ملك بن نبي: تطبيق مبدأ السهولة، التي تجذب الكثير من الناس ذوي النيات الطيبة الذين يقدّرون أهمية الأشياء بناء على سهولات الحاضر وليس على صعوبات المستقبل وتحدياته، ثم أن هذا المبدأ لا يتطلب القيام بالعمل وبذل الجهد، بل هو مريح جداً لأنه مجرد نقل من مكان الى آخر، والمال بعد ذلك يقوم بكل شيء ويذلل الصعوبات التي تعترض وصول هذه المعلبات الجاهزة من الخطط والمشاريع، ومع الآلة الإعلامية والشعارات الزائفة سيُعتبر مثل هذا العمل الهشّ هو النجاح التنموي الباهر ويصبح الناقلون له هم أيقونة النهوض والنجاح في البلاد، بينما الواقع الحياتي لا يزال يرزح في التخلف، فلا العلوم والآداب تطور، ولم يصبح الإنسان منتِجاً ومبدعاً، ولا حققنا الوفرة في مواردنا ولا نافسنا الآخرين في صادراتنا، ولا عززنا استقلاليتنا في غذائنا ودوائنا ولباسنا وسائر حاجاتنا، والأسوأ بعد ذلك أن يتم خداع المجتمع ببرامج إعلامية لا وجود لها في الحقيقة إلا في أوراق الصحف وعلى ألسنة المذيعين في نشرات الأخبار، مع فقاعات يطلقها بعض الخبراء الاقتصاديين في الهواء ثم يغادروننا بلا رجعة، وأحيانا ولكي تكتمل مسرحية فنتازيا التقدم يتم خلق تلك الخرقة الحمراء التي يحملها في يده مصارع الثيران فيثير غضب الثور لأجل صدامه والتعارك معه، وهو يظن أنه قد مزقها بقرونه وانتصر، بينما هو يضحك ويمارس مسرحيته في إشغال المجتمع بأوهام نهضوية تبعده عن حقيقة المشكلة ومصدر الأزمة الحضارية. (انظر: مشكلة الأفكار في العلام الإسلامي لمالك بن نبي، ترجمة بسام بركه وأحمد شعبو، طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى 1988م ص 146-152، وكتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، لمالك بن نبي، ص 27-30). وختاماً ... فإن أفكار النهضة والتقدم هي أساس البقاء التاريخي لأي شعب من الشعوب، وهي الرصيد الذي تحتفي به الأجيال في حياتها، وبقاء جذوة التحضر متوقدة مرتهنة بحريّةٍ عقلية وأفكار دافعة محصّنة من سموم الأفكار الميتة والمميتة وفيروسات الخداع والتدليس ولو كانت منابرها مهيبة ومحترمة، والمجتمع لا يبلغ ذروة التحضر إلا بمقدار ما لديه من أفكار تقدمية تحولت مع نضج المجتمع بها إلى واقع متجسد في العمران والتنمية وحياة الإنسان.