في تاريخنا الإنساني الطويل تتجلى حقب مضيئة وقفزات نهضوية تشكّل ريادة ذاك العصر، وتصبح هذه الحقبة في الذاكرة الجمعية مُسماه بالتاريخ الذهبي لهذه الحضارة وتستعمله شعوبها بفخر كبير فتراتٍ طويلة، كعصر الخلافة الراشدة وبدايات العصر الأموي في الأندلس، أو عصر النهضة في الوسط الأوروبي، وعصر ميجي في اليابان وغيرها. هذه اللحظات التاريخية المزدهرة بالتقدم العلمي والقوة السياسية والرخاء الاقتصادي، لا تزال علامات فارقة في تاريخ تلك المجتمعات والحضارات. تناولْ هذا السياق التقدمي يدعونا إلى البحث عن الأسباب الكامنة لهذا النبوغ الحضاري والعوامل التي دفعت نحو هذا النهوض، وأحياناً يكون التقدم وسط ركام من الخيبات والفشل المزمن، ومع ذلك يشع نور التحضر وتظهر انبعاثات القوة والصعود، الأمر الذي يستدعي كشف هذه العوامل الدافعة للتقدم والنهوض، وهل هي متشابهة ومشتركة حتى مع تغير الأزمنة والأمكنة؟ فتصبح بناءً على هذا التشارك قوانين وسنناً عامة تضبط حركة التقدم في المجتمعات الإنسانية؟ والناظر في علم الاجتماع وعلم تاريخ الأفكار يجد هناك قراءات كثيرة حول تحليل أسباب النهوض والقوة، تُختزل تارة في سبب جامع، وتظهر تارة أخرى في أسباب عديدة ومفصّلة، فمالك بن نبي يرى أن هناك سبباً جامعاً يدفع الأمم للتقدم وهو الإيمان بعقيدة دينية تلهم المجتمع الاندفاع نحو إنموذجها الحضاري من خلال هذه الطاقة الروحية التي تسري في الأفراد، وفي تأكيد هذا العامل يقول: «الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، والحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعةً ومنهاجاً... فكأنما قدّر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية...» (انظر: كتاب «شروط النهضة» لمالك بن نبي، نشر دار الفكر، طبعة 2006م، ص 75). وعلى هذا النهج سار غوستاف لوبون بتأكيد قيمة المبادئ كمزيج من الأفكار والمشاعر والإيمان التي تتحول قوة نفاثّة من الدافعية نحو العمل مهما كانت المعوقات، فهو يرى أن هذا المبدأ هو سر التقدم في الحضارات التي درسها. يعبّر لوبون عن هذا العامل الجامع للتقدم بقوله: «تنشأ الحضارات عن بعض المبادئ الأساسية، وإذا ما أقبلت هذه المبادئ على التحول غدت الحضارات مقضياً عليها بالتحول. إذاً، إن الذي يقود العالم هو المبادئ، ومن ثم أولئك الذين يتقمصونها وينشرونها. والنصر يُكتب لتلك المبادئ عندما تجد من المهووسين والمؤمنين من يُصغون إليها» (انظر: كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم»، لمؤلفه غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، طبعة دار المعارف 1957، ص 145-148). فالمبادئ التي تحوّلت معتقدات تصبح أهم وقود لاهب للنهوض الحضاري، وأظن أن مالك بن نبي وغوستاف لوبون وغيرهما، نظروا إلى وسائل البعث العملية للتقدم باعتبار أن هناك أفكارا صحيحة متوافرة لكنها خامدة لم تجد من يقوم بتحويلها إلى واقع حضاري مشهود، في حين نجد ابن خلدون في مقدمته فصّل الحديث في بواعث التقدم والضعف، وجعل للأسباب النفسية والاجتماعية دوراً أكبر من مجرد البواعث العقدية التي يؤمن بها الفرد من دون أن يهمش دورها، لكنه أكّد دور العصبية واجتماعها والبداوة وخشونتها والعدالة ونزاهتها كأسباب جوهرية لقيام الحضارات وصلابتها. هذه الأسباب الجامعة للتقدم يشهد لها التاريخ بالوقوع ويشهد لها الحسّ بالثبوت، ولكن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى تبسيط تلك الأسباب وإعادة كتابتها بما يتوافق مع طبيعة الاندماج الأممي وتغير معطيات القوة واختلاف معايير النهضة التي يشعر بها الإنسان العادي، فالرفاهية التي يطلبها مواطن العصر الحديث، تتلخص في مدى توافر الخدمات الضرورية بسهولة ويسر، وحصوله على المتع واللذات من دون تكاليف مرهقة، وهذه الحاجات لم تعد تتطلب دولا قوية بجيوشها ومتسعة جغرافيتها ومستبدة بمجامع الحكم فيها؛ بل المطلوب الحضاري يكمن في مدى قوة البنى التحتية للسكن والتعليم والصحة ووفرة التقنية التي عليها قوام الحياة المعاصرة، وهنا تبرز أهمية الذكاء الاصطناعي في الحديث عن اهم العوامل لنهوض المجتمعات ما كانت لتذكر مطلقا في العصور القديمة، ومع أهمية هذا العامل فإن وراءه يكمن السبب الحقيقي للتقدم وهو مدى قدرة الانسان على تحقيق هذا التقدم بأي أداة كانت، فغالب من تكلم عن التقدم الحضاري وتاريخه في المجتمعات يركز على دور النخب السياسية والعلمية في قيادة النهوض من دون الحاجة لكافة أفراد المجتمع الذين يُعتبرون تابعين للمبدأ أو العقيدة ويحاكون تلك السلطات المهيمنة على الروح والدولة من دون تعقّل وفهم، بينما في عصرنا الحاضر نعيش عصر الفرد الواحد ومتطلباته الخاصة، وأصبحت حاجات الفرد هي معيار التقدم أو النهوض الذي تسعى له الدول والمجتمعات، فمعايير دخل الفرد السنوي وحصوله على التعليم والصحة والمسكن والعدالة الناجزة والحريات المتعددة هي مؤشرات التقدم أو التخلف. يظهر مما سبق أن الإنسان المعاصر هو حجر الزاوية الأهم في أي انطلاقة حضارية، ومالم تكن هناك غالبية شعبية ترفل بنعيم التطور والتقدم، فهناك فشل ما؛ وهنا نحتاج إلى طرح تساؤل كبير عن أهم المؤثرات المعاصرة التي تدفع بالفرد للتقدم، ولم نستخدم هنا مصطلح «تقدم المجتمع» لأنه نتيجة حتمية لتقدم مجموع الأفراد أو غالبهم ، ثم أن فردانية الحضارة المعاصرة همشت حاجات المجتمع كمنظومة واحدة إلى حاجات الفرد كغاية رئيسة، هذا التساؤل المهم في معرفة أهم المؤثرات لتقدم الفرد، يطول شرحه والجواب عنه، ولكن اكتفي بعامل قد يكون من الأهمية بمكان الحديث عنه في هذا المقام، والمتعلق بمناخ الحرية الذي يدفع الأفكار للنمو والأفراد للتلقي والقبول، وهذه الحرية المسؤولة هي التي تنقل الإنسان من طور الشيء إلى طور الحي، فالحرية تجعل الإنسان متسامياً مستقلاً مكلفاً وفق عقله وقدراته، لذلك كانت أمل كل البشر والخيار الذي يجعل الإنسان يضحي بكل ما يملك لأجل أن يتحرر من قيود العبودية والإذلال، فالحرية بالنسبة إلى الإنسان مثيل روحه، ولا غنى له عنها إذا أراد أن يعيش كريما مؤثرا في وسطه الحياتي، ومن دونها يتحول إلى غرض مادي كبقية الأشياء من حوله لا يختلف فيها عن المخلوقات الأخرى، والحرية المقصودة هنا هي المشروطة بالمسؤولية التي تمكن الإنسان من معرفة حدوده العرفية التي لا تتجاوز فيها حريته الخاصة الإضرار بغيره، أو التعدي على حريات الآخرين وحقوقهم ، فمجرد الشعور بالحرية من قيود الخضوع الظالم والمُذّل ينطلق الإنسان ويشعر بكرامته ويحقق حضوره الاستخلافي في الأرض، وفي هذا المقام تجدر بنا العودة إلى نص نفيس يؤكد ما سبق من معنى، وهو قول ربعيُّ بن عامر لرستم قائد الفرس لما سأله: ما جاء بكم؟ وذلك قبل موقعة القادسية الشهيرة : فقال له: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام» (انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير، طبعة دار الفكر 1986، 7/40)، هذا الجواب الذي برّر فيه الصحابي سبب انطلاقتهم في الأرض وعلل معنى قوتهم الجديدة التي حضرت لملاقاة أعظم الإمبراطوريات في الأرض، كل ما جاء في هذه العبارة يعتبر تلخيصاً لمفهوم الحرية بلا أدنى شك، وهو أيضا ملخص مهم لغاية الشريعة الراجعة إلى ترسيخ الحرية في القلوب بالتوحيد الخالص لله تعالى وفي العقول بحرية النظر، كما في قوله تعالى: «قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (يونس: 101) وتجسّد أيضا في حرية اعتناق الدين الذي يعتبر عند المسلمين بمثابة الحق الواجب، فقد جاء في قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (البقرة: 256) ومع تأكيد هذا النص الرمزي والدلالي لعظمة الإسلام الذي عبر عنه هذا الصحابي ، نجد فيه إشارة واضحة الى حريةٍ حياتية شاملة بالانعتاق من قيود تجار الاقطاع والاخضاع ، وهذه المقولة هي التعبير الصريح لمقصد الشريعة التي عبّر عنها الإمام الشاطبي بأن مقصد الدين جاء: «بإخراج المكلف عن داعية هواه ليكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً» (الموافقات، تحقيق محمد دراز، طبعة دار الكتب العلمية، 2/ 251)، وبناءً على ذلك التواتر من النصوص والأحكام قرر عدد من العلماء المجددين إثبات مقصد الحرية كمرجع كلي تعود إليه الأحكام والأنظمة في الشريعة، ولعل من أشهرهم، الإمام الطاهر بن عاشور الذي جعل الحرية من ضمن مقاصد الشريعة وعليها أساس الفطرة التي جاءت كمشترك بشري جرت حياة الخلق على إقراره .(انظر:»مقاصد الشريعة الإسلامية» للطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م، ص130، ووافقه الدكتور بن زغيبة في «المقاصد العامة للشريعة»، نشر مطابع دار الصفوة بمصر، الطبعة الأولى 1996م،ص 198، وعبدالنور بزا في «مصالح الإنسان.مقاربة مقاصدية»، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 2008م، ص 235). فالحرية المسؤولة من أهم المؤثرات الحقيقة الدافعة بالإنسان للنهوض والتقدم، والتاريخ يشهد أن أعظم تلك الإنجازات البشرية إنما جاءت في فترات عاش فيها الإنسان حراً كريماً، يبدع ويبحث ويؤلّف ويعبّر عن رأيه من دون خوف أو وجل، وهذا ما أكده برتراند راسل بعدما ضرب الكثير من الأمثلة والمقارنات بين الحضارات القديمة والمعاصرة ليخلص الى القول: «إن شعور المرء بكرامته يعني معرفته لقيمته الذاتية وأهميته من حيث هو إنسان، فإذا شعر الفرد بذلك أصبح عاملاً فعالاً في تكوين رأي عام حسن وأصبح لا يميل إلى الخضوع لرأي لا يعتقد بصحته ونفعه، إن هذا النوع من الشعور يجعل كلاً من التقدم الخلقي والعقلي ممكناً» (انظر: كتاب «السلطة والفرد»، ترجمة د.نوري جعفر، من منشورات دار الجمل ،الطبعة الأولى 2005م ، ص 79 و80 بتصرف يسير)، ويمكن اعتبار أهم ثورة علمية في العصور الوسطى في أوروبا تمثلت في تحرر العقول من سيطرة كهنوت الكنيسة والأيديولوجية السكولائية التي اعتبرت الأرض مركز الكون، كما أنهت التفسيرات الدينية حول الكون والخليقة المناهضة للعلم، هذه الثورة التحررية قادها كوبرنيكوس (المتوفى عام 1523م)، فمن خلال نظريته الفلكية وتحليلاته العقلية لحركة الأرض والشمس وغيرها من مناقشات حول الإنسان والطبيعة، فتح للعقل آفاقا حرّة في النظر والتحليل. قادت هذه الاكتشافات الإنسان -بعد ذلك بقرون- إلى أهم نهضة علمية في أوروبا والعالم ما كنت لتحدث لولا هذه الحرية العلمية .(انظر: «كتاب الفلسفة والإنسان، جدلية العلاقة بين الإنسان والحضارة»، للدكتور فيصل عباس، نشر دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1996م، ص 145-147).