الحضارة اليابانية المعاصرة تشكّل علامة فارقة في كل الانجازات المدنية التي توصل إليها البشر المعاصرون، فاليابانيون لا يملكون موارد طبيعية ضخمة كما في حضارات بلاد الرافدين، أو ينعمون بموقع جغرافي استراتيجي يهيمنون فيه على العالم كما حصل للإغريق أو الرومان، ولم يرثوا ديانة سماوية شكّلت لهم حضارة كما حدث لبعض الأمم المسيحية أو الإسلامية، بناءً على نظرية مالك بن نبي في أثر العقيدة على التحضر، كما في قوله: «الحضارة لا تنبعث – كما هو ملاحظ - إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التأريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية وفي البرهمية نواة الحضارة البرهمية. فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء» (شروط النهضة ص56). فديانة اليابانيين الشنتو أو البوذية لم تكن سبباً رئيساً في هذا التقدم المدني الذي تعيشه اليابان اليوم، فهم أقرب إلى تجريد الدين من الحياة إلا في مواسم الانفصام العقلي عندما يحيون بعض أعيادهم أو قل أساطيرهم وخرافاتهم الدينية. ولذلك يمكن أن نعتبر الحضارة اليابانية ذات فرادة في دراسات الانثروبيولوجيا الحضارية، فالعقيدة الدينية محفز قوي للعمل والاجتماع كما قرر مالك بن نبي وتوينبي وغيرهم، ولكن لا بد من محفزات أخرى تثير الكتلة الحرجة داخل المجتمعات تلك نحو النهوض، فالنهضة اليابانية الأولى بدأت مع عصر ميجي، التي حكم خلالها الإمبراطور موتسوهيتو (1867- 1912م) وحصل فيها الانفتاح الاستيرادي لكل جديد نافع من الأنظمة والمعارف، بعد عزلة اختيارية لمدة مئتي عام تقريباً، وهذه الفترة لم تتقدم فيها اليابان سوى في التسلح والتصنيع الحربي، ما جعلها تخوض حروباً شرسة كانت نهايتها بتدمير مدينتي هيروشيما ونغازاكي بالقنبلة الذرية التي محت الأرض وغيرت ملامح المستقبل وشكلت تغيراً عميقاً في نفوس اليابانيين. ومن الجدير ذكره هنا أني في تموز (يوليو) الماضي زرت اليابان وخصصت يوماً لزيارة هيروشيما، كان يوماً يحمل معه ألماً عميقاً لما وصلت إليه شراسة الإنسان ورغبته في الاستبداد باستخدام هذا السلاح الفتاك الماحق، ومع هذا الألم والتحسر، تنظر في الخارج لترى حلماً حقيقياً وليس خيالاً من النهضة والتقدم والتباهي التقني التي قادها أولئك المهزومون المقتولون المحتلون!!، وكأن بشراً غير البشر فعلوا ذلك السحر الشرقي، وفي فترة إنجازٍ وجيزة لا تتجاوز العقدين، تعود فيها اليابان من أقوى دول العالم صناعياً وتنموياً، وفي شكل مذهل، يزيد من حيرة المتأمل والمتابع لهذا الأنموذج النهضوي المكافح. هذه المرحلة النهضوية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية هي محور مقالي، في معرفة الأسباب الكامنة وراء هذا النهوض من وسط الركام والانهزام. لهذا خلال فترة زيارتي اليابان حاولت أن أجد إجابتي الشخصية لمعرفة تلك العوامل، وقد استفدت من عدد من الشخصيات الأكاديمية في فك هذا اللغز الحضاري، ولعل الكاتب يوسف أدريس الذي تعد رواياته الأولى في اليابان من خلال جهد المستعرب الياباني (نوبواكي نوتوهارا) حاول معرفة السبب، فبعد زيارات عدة قام بها لليابان، اكتشف أنه في أحد الليالي وبينما هو عائد بعد منتصف الليل إلى الفندق وجد عاملاً يابانياً يعمل وحيداً بكل جد ومثابرة، فاكتشف كما يقول سر النهوض في العامل الذي لم يحتج إلى رقيب أو حسيب في أداء مسؤولياته مهما كانت بسيطة ومتواضعة (انظر: العرب من وجهة نظر يابانية لنوتوهارا ص 31). واعتقد أن قيم العمل وأخلاقياته حاضرة بقوة في النهضة اليابانية من خلال الشعور بالمسؤولية الفردية، واحترام الثقة بين العامل ورب عمله، أو الحكومة والمواطن، أو المستهلك والمنتج، وعندما تُخرق تلك الثقة فإن إرباكاً قوياً يصيب المجتمع بحثاً عن هذا الخلل وعلاجه على أعلى مستويات الاهتمام المجتمعي، ولهذا أعجب وأنا ازور الكليات اليابانية أن الباحث يعطى مبلغاً مجزياً لمشروعه البحثي قبل تقديم أي مبررات أو إقناعات أو شهادات تحكيم لقبول تمويل مشروعه أو بحثه، كما أن الأستاذ يختبر طلابه بتوزيع أوراق الأسئلة من دون رقابة أحد عليهم. والتعليم في اليابان جاد وحازم ومتنوع الرغبات ومدرِّب على المهارات، فالطالب يتخرج محباً للمعرفة راغباً في المزيد، مؤسَّساً على العمل واحترام القيم، لهذا تنتج المكتبات اليابانية يومياً أكثر من عشرين ألف عنوان جديد، وعلى رغم كل الملهيات والتقنيات في المجتمع الياباني فإن قراءة الكتب تبقى أولوية رجل الشارع قبل المثقف. الحقيقة أن هناك الكثير الذي يحتاج قوله عن هذا الكوكب المغاير، ولكن كشف أسباب النهوض الأساسية أمراً يحتاج إلى دقة تشخيص وعمق في النظر، لأن الظواهر العامة ليست بالشرط دليل تحضر لمجتمع ما وإن كانت مؤشراً للتقدم، فالرفاهية وتيسر الخدمات ليست لبّ الحضارة بل قشورها الخارجية، ويمكن أن أحدد أهم عوامل النهضة في اليابان من خلال رؤيتي الشخصية في الجوانب التالية، أولاً: احترام القيم كبديل عن الدين والمعتقد لدى اليابانيين، والقيم هنا هي تلك الأخلاق المتوارثة من فرسان الساموراي التي حددتها تعاليم (البوشيدو) وهو قانون الأخلاق القائم على سبعة أمور، وهي: الاستقامة، والشرف، والاحترام، والصدق، والشجاعة، والبر والإحسان، والولاء والإخلاص. وهذه القيم هي التي حافظت على التقدم المدني أن لا يوغل في الانحراف التي تجنيه المجتمعات المادية اليوم، ولذلك برز الأمن المجتمعي كمخرج قيمي ينعم به سكان اليابان بينما يحرم منه مجتمعات أوروبية تنعت بالمتقدمة، كما برز احترام الغير والصدق والأمانة في جميع معاملاتهم اليومية إلى درجة الذهول أحياناً. الأمر الثاني من عوامل النهوض الياباني: روح الجماعة والفريق الواحد، الذي تتلاشى فيه الأنا، وتنعدم فيه الذات، وتعظم مصلحة المجتمع على كل المصالح الفردية والآنية، وهذا الجانب يُعزز في الأطفال والصغار منذ خروجهم من بيوتهم معاً - كفريق واحد - لهم قائد محترم ومتواضع حتى يصلوا المدرسة ويتخرجوا منها إلى ساحات العمل وميادين التنمية ومعهم تلك الروح التي تجعل من الياباني جندياً في معمله ومصنعه ووظيفته، يقدس عمله وينضبط في وقته ويحترم الأنظمة ويأنف من مخالفتها ولو في سرِّه، لهذا تجد التسامح والمرونة ومراعاة الغير واضحة في أماكن التجمعات كمحطات القطار والانتظار التي تصل أعدادهم فيها إلى مئات الآلاف يتصرفون خلالها بكل هدوء وسكينة واحترام، وما كان هذا ليحدث لولا روح الانضباط بأخلاق الجماعة والسكون لها. أما الأمر الثالث: فقد يكون في تمتع المجتمع الياباني بالحقوق المدنية وشعوره بكرامته الإنسانية، وحصوله عليها من غير جحود أو مناكفة السلطة، بل لا يشعر الياباني برموز حكومته إلا كخدم للشعب يَشرَفون بذلك العمل من دون استغلال أو استغفال، لذلك أصبح من الطريف عند اليابانيين عندما يرجعون من السفر أن يسألوا عن رئيس وزرائهم الجديد؟!، نظراً الى التغير المستمر في مناصبهم بانتهاء المدة أو الاعتذار عن المواصلة في العمل لعدم القدرة على أداء المهمات أو حل مشكلات معينة، مما يعتبر من المستحيلات في مجتمعات أخرى. إن زيارة المجتمع الياباني فضلاً عن دراسته تصيب القادم إليه بانبهار واضح وصحوة مفجعة من سكرات الانجاز الكاذبة وخديعة التقدم الهامشي الذي يراه ويسمعه في بلده خصوصاً دول العالم العربي، لهذا تسقط الكثير من أقنعة دعاوى التقدم والنهوض التي تطبل لها وسائل الإعلام الهابطة، ما يجعل هناك فارقاً كبيراً ومسافات بين مشاريع تريد بناء الأرض ومشاريع تريد بناء الإنسان ليعمر الأرض بما يحتاجه ويفيده، وهذا ما جعل الإنسان الياباني هو محور التطور والنهوض، فلولا عنايتهم الكبرى بمواردهم البشرية لما بلغت منتجاتهم كل بيت وانطبعت صورتهم في كل عقل. هذه النظرة السريعة لا يمكن أن تكون اختزالاً لحراك أمة وشعب، وإنما محاولة عاجلة لرصد أهم الأسباب التي قد تعين على نقل التجربة أو استلهام الأفكار الحية المنتجة لعلها أن تبعث مجتمع آخر في مكان أو زمان آخر. * كاتب سعودي