«ربما لولا هذه الاعترافات السرية لما وُجدت القصيدة، لما وُجدت القصة، لما وُجد الكاتب نفسه». هكذا قال الشاعر الإنكليزي الشهير تيد هيوز الذي رحل عام 1998، إثر معاناته من المرض. ولعلّ رواية الكاتبة الهولندية كوني بالمن «أنت قلت» من المرات النادرة التي يمنح فيها الأدب صوتاً لهذا الشاعر، بعدما اعتدنا سماع صوت زوجته سيلفيا بلاث، سواء في قصائدها أو في ما تركته من مذكرات أو رسائل متبادلة أو في ما كتبه الآخرون عن حياتها ومرضها ومعاناتها التي انتهت بانتحارها عام 1963. حصلت العلاقة بين تيد وسيلفيا على مجلدات من التحليل والكشف والاتهام. وقد ساعد على ذلك الصمت الذي التزمه الشاعر تجاه انتحار زوجته، إذ جرى العرف على اعتباره مسؤولاً عن ذلك، إلا أنه قبيل وفاته بفترة وجيزة قام بنشر «رسائل الميلاد» التي استخدمتها بالمن كأحد المصادر الرئيسة لمنح تيد هيوز صوتاً، بل جعلته الراوي في روايتها السادسة «أنت قلت» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017- ترجمة الشاعرة لمياء المقدم)، التي صدرت عام 2015 باللغة الهولندية وحصلت على جائزة «ليبريس» في الأدب عام 2016. بدايةً، استعانت كوني بالمن بكل أعمال هيوز الشعرية وكل ما كتبه عن أعمال بلاث وكذلك الدراسات النقدية التي تناولت أعماله، كما استعانت بالجزء المعروض من أرشيفه في جامعة ايموري في أتلانتا. استخدمت أيضاً كل ما كتبته سيلفيا بلاث والدراسات التي كُتبت عن أعمالها، وأيضاً السيرة الوحيدة التي كُتبت عن حياة هيوز، والسيرة المكتوبة عن آسيا فيفل، المرأة الأخرى في حياته والتي يُرجح الجميع أن سيلفيا انتحرت عندما تأكدت من الخيانة. شكلت كوني بالمن من كل هذه المصادر المتعددة سردية روائية منحت فيها تيد هيوز الصوت الرئيس. وهي سردية تحتوي على عناصر كاملة من بناء شخصيات وأماكن وحبكة ومستويات زمنية واعترافات ومشاعر مكثفة، لكنّ الأهم أنها تغوص في طبيعة المشاعر التي ربطت بين تيد وسيلفيا، إذ كانت زوجته- بكل مشاكلها الحياتية من تعلق بالأب الغائب وخضوع لسيطرة الأم ومحاولة انتحار فاشلة- لا تزال تبحث عن صوتها الشعري الحقيقي. كلما كان الصوت يصعد كانت تتألق، وكلما يخبو كانت تحول الحياة كلها إلى بقعة داكنة. تمكنت بالمن من التنقيب في هذه المشاعر الصعبة المعقدة التي ربطت أكثر ثنائي اشتهر في الوسط الأدبي، وقد فعلت بالمن ذلك ببراعة هائلة وقدرة على التخييل الكامل، حتى أنه في لحظة لا يعود القارئ قادراً على التفرقة بين الحقيقة والتخييل، إذ يبدو السرد وكأنه سيرة ذاتية ليس فقط للعلاقة بين الشاعرين الزوجين وبين المجال الخاص والعام والريف والمدينة والوسط الأميركي في مقابل الإنكليزي، بل أيضاً لتطور الصوت الشعري لكل من الشاعرين، ومراكز السلطة الثقافية القادرة على منح أي شاعر صك الوجود بجائزة أو مقال. ناهيك بالوصاية الثقافية التي ظهرت في شخصية الشاعرة الأميركية ماريان مور على سبيل المثل. هو عمل ليس سهلاً، بخاصة أن هيوز رفض تماماً أن يكتب أو يُعلق على ما حدث لزوجته، فكان يقول كما تخيلت بالمن: «بعد موتها، تحولت الشرنقة، التي طالما حاولت إخراجها منها خلال سنوات زواجنا، إلى قفص سجنتني داخله...». اختار هيوز الصمت إزاء كل اللغط حتى داهمه المرض. وتدريجاً- وباقتراب الموت- تمكن من سماع صوتها وتبعها إلى الخارج «وقلتها: أنا». هكذا نسجت بالمن مثل الآخرين سردية كاملة عن هيوز وبلاث لكنها أعادت له إنسانيته عبر منحه صوتاً يشرح به معاناة التماهي بينه وبين زوجته، لم تقصد بالمن أن تمنحه حق الدفاع عن نفسه، بل قصدت أن تمنحه ما حرم نفسه منه: الصوت الفاعل. ومن دون كل هذه المصادر، ما كانت الرواية ستحصل على هذا الثراء والزخم النفسي، فكأن حياة الثنائي كانت طرفاً رئيساً مشاركاً في الإبداع. ولكن يبقى الأمر أن هذه الرواية كتبت باللغة الهولندية، وحصلت على جائزة مخصصة للأدب الناطق بالهولندية. ما كان يُمكن الاستمتاع بهذا العمل من دون الترجمة الرهيفة الواعية التي قدمتها لمياء المقدم. منذ زمن، لم نقرأ عملاً مترجماً لا نشعر فيه بمطبات اللغة والحشرجة الثقافية والتعثر النفسي للنص من دون أن تئن أذني من كثرة الجمل الاسمية. قدمت لمياء ترجمة بارعة متجاوزة كل المشاكل المتعارف عليها، وجاءت اللغة ممتعة، وقادرة على التواصل مع القارئ. من المنطقي أن تكون المقدم، ليس فقط مترجمة بل أيضاً كاتبة وشاعرة تمكنت من الإمساك بالصراع الذي يعانيه الشاعر في العثور على صوته الخاص، فعبرت عنه بلغة دقيقة. الترجمة إبداع أيضاً، وليس مجرد نقل من هنا إلى هناك. كان ساراماغو محقاً في قوله: «الكتاب يقدمون أدباً وطنياً، أما المترجمون فيقدمون أدباً عالمياً»، وهو ما جعل سلسلة الجوائز الصادرة عن الهيئة تتخذ من المقولة شعاراً لها.