ربما كان الشاعر العراقي سركون بولص (2007) أوّل من ترجم بعضاً من قصائد الشاعرة الأميركيّة سيلفيا بلاث (1963)، التي كان لانتحارها صدىً واسع في الأوساط الأدبيّة الأميركيةّ والإنكليزيّة، فهي كانت زوجةً للشاعر الإنكليزي تيد هيوز (1998)، الذي مُنح إمارة الشعر في بريطانيا عام 1984، ثمّ انفصلت عنه نتيجةً لخيانته إياها، وتابعت حياتها منعزلةً مع طفليها، غير قادرة على تجاوز «صدمة خيانة» هيوز لها. ولا ريب في أن الحياة الشخصيّة لسيلفيا أثّرت بوضوح على نظرة النقد إلى شعرها، إذ أن الوشائج بين الحياة الشخصيّة والنصّ الشعري، تثير اهتمام النقد من جهة، وتثير فضول الناس من جهة ثانية. فانتحار سيلفيا مثلاً دفع الحركات النسويّة إلى كيل اتهامات كثيرة لهيوز، وعُدّ مسؤولاً بطريقةٍ أو أخرى عنه، الأمرُ الذي دفعه ربما، وبعد صمتٍ مطلق، إلى الإفصاح عن علاقته بسيلفيا عبر الشّعر؛ فقد أهداها آخر دواوينه «رسائل عيد الميلاد» الذي ترجمه إلى العربيّة الشاعر المصري محمّد عيد إبراهيم (المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت). وبالمثل نظر النقد إلى ديوان هيوز هذا، من خلال العلاقة بين الحياة الشخصيّة والنصّ الشعري، وبصورة أدق العلاقة بين قصائد هيوز وقصائد سيلفيا «الشخصيّة». وإن كان الديوان المذكور يحمل في طيّاته ما يؤهله الخضوع لهذا «المنهج» النقدي، فإن دواوين سيلفيا (التمثال، أرئيل، أشجار الخريف، عبور المياه)، خضعت له رغماً عنها، لأنّ جلّ النقد نظر في قصائدها بعد موتها لا قبله، فكأنه نظر إلى الشّعر من خلال علاقته بالانتحار والحياة الشخصيّة، إذ كان حضور الموت في قصائدها مثلاً، يحظى باهتمام كبيرٍ، ويُنظر إليه من خلال علاقته بانتحارها لا باعتباره موضوعاً شعرياً كبيراً. لذلك ربما، تبدو «المختارات الشعريّة» أكثر حريّة في النظر إلى القصائد، إذ تميلُ، نظراً إلى طبيعة منهجها، لإنصاف الفنّ قبل أي شيء آخر. أمّا الترجمة فتخضع لأمور أخرى من أهمّها اختيار الملائم، وهو اختيار متشعّب الأولويات: أنختار القصيدة الأشهر أم الأهم؟ المنحازة إلى الشاعر بلغته أمّ المنحازة إليه بلغتنا؟. ويزداد تشعّب الخيارات حين يكون المترجم شاعراً، إذ إن ذائقته الشخصيّة الخاضعة بهذا القدر أو ذاك، إلى جماليات شعريّة معبّرة عن العصر الذي ينتمي إليه، تؤدّي دوراً كبيراً في ذلك، وترفدها في الآن نفسه نظرة الشاعر إلى الشّعر وشؤونه، فما هو الشّعر؟ لا يبدو هنا سؤالاً نقديّاً – وإن كان في كلّ شاعر ناقدٌ خفيّ -، بل هو سؤال جوهريّ يرنّ في بال الشاعر/ المترجم عند قراءة القصائد بدقّة ومعاينتها عن كثب، لتصبح القصائد «المختارة» للترجمة، صورةً متعدّدة الوجوه لجواب الشاعر عن السؤال «الوجوديّ»: ما هو الشّعر؟. واقتراحات الجواب اللانهائيّة تعكس عن قصد أو من دون قصد «نَفَس» الشاعر أو «أناه»، فاختيارات جمانة حدّاد مثلاً من قصائد سيلفيا، تختلف عن اختيارات شريف بقنه أو ظبية خميس أو غيرهم من المترجمين / الشعراء. لكن هذه الترجمات المنشورة متفرقة، على العكس تماماً من الترجمة التي أنجزها الشاعر سامر أبو هواش، فقد أفرد لسيلفيا بلاث مجموعةً شعريةً (أكثر من طريقة لائقة للغرق) ضمن مشروع كبيرٍ لترجمة الشّعر الأميركي المعاصر في خمسة عشر جزءاً، وصدرت أخيراً عن منشورات الجمل ودار كلمة (أبو ظبي)، وهذه هي المرّة الأولى التي تخصّص فيها لسيلفيا مختارات ممثّلة لشعرها. عنوان هذه الترجمة مأخوذٌ من إحدى قصائد سيلفيا (نقش من ثلاثة مقاطع على ضريح)، التي تحوّم حول الموت لا باعتباره صورةً للخلاص الفردي، بل باعتباره «نذيراً دائماً وأفقاً حتميّاً» إبّان الحرب العالمية الثانية، فبلاث هي جزء من الجيل الذي عاصر تلك الفترة وتأثر ب «مأساة الهولوكوست والقنابل النوويّة»: «متهاديةً على صفحة البحر اللازوردي/ تتقدم بوارج حربيّة داخل زجاجات/ كلّ منها تحمل برقيّة موجهةً إليّ». وإذ تكرّر بلاث لثلاث مرّات الجملة ذاتها (هنالك أكثر من طريقة لائقة للغرق)، وتعتني بدرجة نبرة رثاء الحياة (الموجة العملاقة التي تقتحم الأرض/ مفترسةً الحدائق الخضراء بوصةً بوصة)، فإنها لا تهمل شكل القصيدة ولا بناءها الذي يناوب بين الشخصي والعامّ، وهو ما يفتحها على مزيج من الرومانسية والغنائية لكن لا بالمعنى المألوف للتعبيرين، إذ إنّ بلاث تتقشّف إلى حدّ ما في الصور الشعريّة وتميل إلى لغة ذهنيّة. ولعلّ هذا ما يفسّر ولو جزئيّاً خيار المترجم / الشاعر في الترجمة الأقرب إلى الدقّة والبعيدة من الزخرفة، ومن إطالة الجمل ولفّها. فسامر أبو هواش يبدو في ترجمته هذه، أقرب إلى الأصل الإنكليزي، ويظهرُ هذا في نواحٍ عديدة من ترجمته؛ إذ انحاز مثلاً إلى تركيب الجملة الإنكليزيّة، التي تبدأ بالفاعل كما هو معروف، وهي بذلك تعاكس تركيب الجملة العربيّة التي تبدأ بالفعل. ومن الصحيح مئة في المئة إن تقديم الفاعل على الفعل جائزٌ جداً في العربيّة ودونه رخصٌ نحويّة، إلا أن ذلك لا يتمّ ل «تشريع» القواعد النحويّة، بل يتمّ في الدرجة الأولى خدمةً للمعنى. والمعاني كلّها ليست إلا مضمار الشعر ومداره الأبدي، فهي فيصلُ القول ومبتغاه، وهي المواربة المخاتلة التي تسلس القياد للشاعر بعد مكابدة قوامها كيفية قول ما يعتمل في نفسه، ولعلّ هذا ما ينسجم تماماً مع أحد أبرز وأبسط وصفٍ للشعر؛ فهو عملٌ لغويّ بالدرجة الأولى. لذا فإن ترجمة الشعر على يد شاعر، تعني أنه وضع نفسه في مهب لغتين معاً: الأمّ والأجنبيّة. وفضلاً عن اختلاف التراكيب، يكون انتقاء المفردات المناسبة أمراً حسّاساً خاضعاً لمزاج الاستعارة وطرق بنائها في اللغتين. ففي قصيدة «البشر النحيفون»، (استعمل أبو هواش صيغةً صحيحةً هي «نحفاء» ولكن غير مأنوسة لجمع مفردة نحيف): «حين كنّا صغاراً حين تضوروا جوعاً/ وصاروا نحفاء إلى هذا الحد»، وكان أن زاد من ثِقل هذه المفردة على السمع، ورودها لمرةٍ واحدة، خِلافاً للجمع المأنوس (نحيفون/ نحيفين)، الذي يرد أكثر من مرّة في القصيدة. ولا شكّ في أن بناء المعنى في القصيدة يقوم أوّلاً على تكرار هذه المفردة، إذ فضلاً عن ضمّها إلى مفردة البشر، تُضمّ أيضاً إلى مفردتيّ الصمت والشفاه، لترفع المعنى العامّ الذي تدور حوله القصيدة: «يكتسون الهالة النورانيّة التي لا تطاق/ لكبش الفداء الذي اختير بالقرعة»، إذ ان قصيدة «البشر النحيفون» صورة لضحية محدّدة في حربٍ محدّدة : «لكن عِرقاً شديد الهزال، شديد النحول/ لا يسعه المكوث في الأحلام». وفي الجملة فإن اختيار المفردة المناسبة في هذه القصيدة أو غيرها، يعني الوقوف على حافّة خطرة، يشفّ من خلالها درب تشكّل الاستعارة، ويبيّن حساسيّة اللغة في اقتناص درجات الشّعر ومراتبه، الأمرُ الذي يعني أن إبدال مفردة بأخرى ليس إلا مغامرة خطرة قد تؤدّي إلى تلكؤ المعنى. ينحاز أبو هواش كما هو واضح في اختياراته، إلى إنصاف سيلفيا بلاث من خِلال تنويع صوتها الشّعري بين قصائد ترسمُ صورة المرأة العصريّة (محادثة بين الخرائب) وقصائد ترسم صورة المرأة المتخفّفة من كلّ شيء عدا سحر الشّعر وألقه «الأنثوي»: (أنا؟/ أنا أمشي وحيدة؛/ وتحت قدميّ/ يولد شارع منتصف الليل/... وبنَزوة منّي/ تتدلى عاليةً فوق الأقواس/ غلالة القمر السماويّة)، وأخرى ترسم الشغف الغامض بين الصياد والطريدة: «لهيبه يكمن لي، يضيء الأشجار/ فأفرّ مشتعلةً بالنيران/... أرمي له قلبي لكي أوقف خطوه/ ولأروي ظمأه أرشّ دمي». وإذ اختار إنصافها، فإنه لا يغفل البتة ترجمة قصيدتها «الكترا على درب الأضاليا»، التي تكشف فيها عن تأثير موت أبيها، وهي في الثامنة من العمر، على مزاجها أو شيطانها الشعري الذي يمزجُ الثلج بالنار: «كأنك لم تكُ يوماً/ كأني جئت إلى هذا العلم/ من رحم أمّي وحدها:/ سريرها الواسع ارتدى ثوب القداسة... متّ كأي رجل/ فكيف لي أن أشيخ الآن؟ أنا شبح انتحار شائن/... كان حبّي هو الذي قاد كِلينا إلى الموت». مزجت سيلفيا بلاث بين الثلج والنار في قصائدها المتوترة القاسيّة، لكن المملوءة بمفردات الطبيعة التي تعطيها بعداً موازياً لوطأة حضور الحياة المدينيّة، أو بصورة أدق، وطأة الحياة عليها، فقد عانت سيلفيا منذ نشأتها أزمات نفسية ونوبات عصبيّة، وعانت من حبّها لهيوز «الحبيب الخائن»، واختارت أن تضع حدّاً للمرايا المتعدّدة لمعاناتها: «يشبهني أكثر أن أستلقي/ وأخوض مع السماء محادثةً مفتوحة،/ وسأكون مفيدة في نومي النهائي:/ عندئذ قد تلمسني الأشجار مرّة،/ وتجد الأزهار بعض الوقت لي». أمّا سامر أبو هواش فقد اختار ترجمة دقيقةً لمراياها المتعدّدة، وجمع الثلج إلى النار في دفتي ديوان جميل في أصله وفي ثوبه العربي الجديد.