تعود حياة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932- 1963)، والظروف المحيطة بانتحارها، مجدداً إلى دائرة الضوء والأخذ والرد بين الباحثين المتخصصين في حياتها ومنجزها الشعري، وذلك على بعد أقل من شهرين من عيد ميلادها الثمانين في 27 تشرين الثاني (يناير) من هذا العام. فبعد أن كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي) عن ملفات التحقيق مع والدها الألماني الأصل أوتو بلاث، بدأ الباحثون يتنبهون أكثر فأكثر إلى طبيعة العلاقة المعقدة التي جمعت بين بلاث وأبيها والتي طبعت حياتها النفسية والشعرية، وأثرت عميقاً في قصائدها، وطريقة نظر بلاث إلى علاقتها مع ذكرى أبيها في قصائدها ويومياتها وروايتها «الناقوس الزجاجي». فعلى رغم أن والدها، الذي كان عالم أحياء يعمل في جامعة بوسطن، توفي عام 1940 حين كانت سيلفيا في الثامنة من عمرها، ظلت الإبنة تحمل مشاعر متناقضة، وعلى الأغلب سلبية الطابع، تجاه والدها المهاجر من بروسيا الشرقية إلى أميركا عام 1900، ليصبح متخصصاً في علم الحشرات. ما كشفت عنه وثائق مكتب التحقيقات الفيدرالي، التي سيتم نشرها في الذكرى الثمانين لميلاد سيلفيا بلاث خلال مؤتمر تعقده جامعة إنديانا الأميركية، يوضح أن والد سيلفيا كان موضوعاً تحت مراقبة الاستخبارات الأميركية، إذ كان مشكوكاً في ولائه ووطنيته، وجرى احتجازه لأنه كان متعاطفاً مع ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى. وتؤكد الوثائق أن الجامعات والمؤسسات الأميركية العلمية مارست التمييز ضده لكونه ألماني الأصل، على رغم أنه كان عالماً متميزاً في مجاله، ومشهوداً له بالكفاءة. وقد وصفته الاستخبارات الأميركية بأنه كان رجلاً منعزلاً يعاني الكآبة، ولم يكن له أصدقاء. تفسر هذه الوثائق المهمة طبيعة المشاعر السلبية التي كانت بلاث تكنّها لوالدها المتوفى عام 1940، وهي مشاعر من السهل العثور عليها في قصائدها ويومياتها. فهي تكتب في واحدة من يومياتها التي تعود إلى عام 1958 عن والدها: «لقد كان يحيي هتلر في خلوة منزله». كما تكتب في قصيدتها «أبي» (1962): «شعرت على الدوام بالخوف منك.../ من عينيك الآريتين/ بزرقتهما الحادة الساطعة...». وهي تشن في القصيدة نفسها هجوماً حاداً على زوجها الشاعر البريطاني تيد هيوز (1930- 1998) الذي اتهمته سيلفيا بأنه أهملها وأعاد أسباب نوبات الكآبة التي كانت تهاجمها إلى العلاقة الأوديبية التي ربطتها بوالدها. يضاف الكشف الجديد حول علاقة بلاث بوالدها، إلى ما تضمنته (يوميات سيلفيا بلاث: 1950 - 1962)، التي حررتها كارين كوكيل وظهرت عن دار نشر «فيبر أند فيبر» البريطانية قبل سنوات، كاشفة عن الميول الانتحارية لسيلفيا بلاث ورغبتها العارمة في الموت الذي وصفته في واحدة من قصائدها بأنه شيء يشبه الفن: «الموت فن...»، كما تسرد وقائع احتجازها في مصحة للأمراض النفسية ومحاولتها الانتحار وهي في العشرين من عمرها قبل أن تتعرف الى تيد هيوز، أثناء دراستهما معاً في جامعة كمبريدج البريطانية، وتصبح زوجة له. تكتب بلاث في إحدى يومياتها: «أشعر أنني وحيدة... الألم يعتصرني حاداً مثل سكين، والدم الأسود يصرخ في داخلي». وتصف في يومية أخرى علاقتها بهيوز قائلة: «غريبان لا يكلم أحدنا الآخر. وعندما نعود من نزهتنا القصيرة أشعر بالمرض ينمو ويكبر، بنومنا وحيدين، وبالاستيقاظ ذي الطعم الحامض». كما تكتب في اليوميات: «إلهي، أهذا هو كل شيء، ترددُ صدى الضحكات والدموع المنسكبة في الدهليز؟ تبجيلُ الذات والاشمئزاز منها؟ التألق والشعور بالقرف؟». توضح المقاطع السابقة من يوميات سيلفيا بلاث الحالة النفسية غير المستقرة التي كانت تعاني منها، كما تكشف في الوقت نفسه عن الظلم الذي لحق بزوجها تيد هيوز إثر وفاتها منتحرة بالغاز عام 1963، مما ألّب عليه عدداً من الجمعيات النسوية والنسويات والنسويين الذين اتهموه بأنه كان سبباً في انتحارها، وتظاهروا ضده في الكثير من الأمسيات الشعرية التي كان يقيمها، كما قاموا بمحو اسمه عن قبرها أكثر من مرة. لقد أصبحت سيلفيا بلاث مثالاً للمرأة - الضحية فيما أصبح تيد هيوز مثالاً للرجل - المضطهد غير الوفي وكاره النساء. ومع أن هيوز آثر طيلة خمسة وثلاثين عاماً (1963 - 1998) الصمت حيال الاتهامات التي وجهتها اليه المؤسسة الأدبية البريطانية، وكذلك الأوساط النسوية، في ما يتعلق بوفاة بلاث، إلا أنه خرج عن صمته في العام الأخير من حياته حين نشر مجموعته الشعرية الأخيرة التي كرسها لذكرى سيلفيا بلاث. في قصيدة من «رسائل عيد الميلاد» (1998)، يكتب هيوز عن لقائه الأول بسيلفيا بلاث: «كنت نحيلة، لينة الأعطاف، ناعمة كسمكة / كنت عالماً جديداً، عالمي الجديد / إذن هذه هي أميركا، فصرخت مندهشاً: / أميركا، أميركا، ما أجملك». وعلى رغم أن بلاث تعد أهم شاعرة أميركية في النصف الثاني من القرن العشرين، وينظر إليها بوصفها أيقونة نسوية معاصرة، إلا أنها لم تنشر سوى القليل من الشعر خلال حياتها القصيرة. فقد نشرت مجموعتها الشعرية الأولى «التمثال»، التي قوبلت بالاستحسان والإعجاب، عام 1960، حيث بدأت العمل في الفترة التي تلتها على قصائدها التي ظهرت في مجموعتها الشعرية «أرييل» (1965). ويتسم أسلوبها في مجموعتها الشعرية الأولى بالكد والاجتهاد في توليد الصور والاستعارات. أما في «أرييل»، فقد كُتبت قصائد المجموعة بسرعة هائلة دفعة واحدة وكأن بلاث ترغب في إفراغ كل ما لديها استعداداً لسفر لا عودة منه. وعكست تلك القصائد إحساس الشاعرة العميق بفوضى التجربة الإنسانية، واحتشدت برؤاها المروعة للعنف والرعب. إضافة إلى المجموعة الشعرية السابقة، التي نشرت بعد وفاة بلاث، نشرت لها ثلاث مجموعات شعرية أخرى هي: «الأشعار غير المجموعة» (1965)، و «اجتياز الماء» (1971)، و «أشجار الشتاء» (1972)، وهي تكشف بوضوح عن الصراع العنيف الذي كان يدور داخل الشاعرة التي كان العالم بالنسبة اليها «حلماً مزعجاً».