(1) صديقي مكيّ المنشأ جِداوي الهوى، بادرني بسؤال مطري عاصف، لماذا لم تكتب عن كارثة جدة الثانية، خصوصاً أنه لم يتأخر قلم كاتب إلا وتناول المأساة بالنقد أو الوصف والمقترح؟ أجبته ثائر العواطف بمطلع أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب (خايف أقول اللي في قلبي)، وعلى رغم جواب المنطق الذي لا يعرف المنطق، أو كمن يقبض على الهواء، إلا أنني أعني ما قلت لذلك الصديق، فأنا خائف أن أقول إن فشل جهاز أمانة مدينة جدة أضاع حياة سكانها أمس واليوم، ولا يزال الغموض يكتنف مستقبل الغد! أخاف القول: إن فقاعات إنجازات المجسمات الوهمية مثلت لنا مدينة سَويّة، والمطر الرباني كشف لنا مكياج قبح الفساد المدفون ما يزيد على 30 عاماً! الشعراء اتبعهم الغاوون بالمظاهر فأنشدوا في «العروس»، فَطُمست معالم الحقيقة بقصائد وآلات موسيقية، وحناجر رفعت الصوت تتغنى ببراءة المشهد، أما المستندات فظلت قابعةً تحت الأرض تنتظر خبراء البحث عن آثار المفسدين في الأرض! خفت أن أقول لصاحبي إن العشوائيات ال «50» في جدة، وال «60» في مكةالمكرمة (كمثال)، لا تحتاج إلى قضاة أو أجهزة تحقيق وتقصي لمحاسبة أفراد، بقدر ما تحتاج إلى اعترافٍ بفشل جيل تنموي خطط وقاد وأشرف على بناء الوطن لثلاثة عقود مضت، هذا الاعتراف - إن حصل - سيُوقفنا على أرض صلبة جديدة لتقويم الماضي واجتثاث فساده وآثاره السلبية من جذورها، وبناء توجه جديد بعقليات تنفيذية أمينة ومؤتمنة على الحاضر والمستقبل، من دونها سنظل ندور في حلقة فشل مفرغة معنونة بحلول ترقيعية تعيدنا في كل مرة إلى نقطة صفر متجمدة الحركة، ساخنة الأقاويل والتأويلات، أدواتها رمي جمرات التهم الصغرى والمتوسطة والكبرى. (2) خائف أن أقول؛ إن الخلاص من الماضي يتطلب جهداً تشريعياً ورقابياً والعمل على بناء فولاذ تنظيمي يحمي موارد الوطن ومقدراته ومكتسباته وخططه التنموية ويضمن دقة وسلامة ومنهجية تنفيذ المشاريع التي نراها اليوم مبعثرة الطرق والأساليب، فمن مشاريع التعميد المباشر المثقلة بالتكاليف الباهظة المحصورة في أربع أو خمس شركات تورمت من كثرة المشاريع في مختلف المجالات، ما اضطرها إلى إتباع أساليب الهبات لمقاولي الباطن بأرخص الأسعار، وأحدث ذلك إرباكاً كبيراً في مستوى تنفيذ المشاريع وجداولها الزمنية المحددة. وفي المقابل نشهد طرحاً لمشاريع حكومية أخرى بأساليب تنافسية بالية أكل عليها الزمن وشرب، تحكمها العروض المالية الأقل عطاءً من دون تركيز أولي على نطاق عمل مبني على مرتَكزات شاملة ودقيقة تضمن تقديم عطاءات فنية تفرز الشركات المؤهلة والجديرة بالمنافسة والقبول لتقديم عطاءاتها المالية لضمان ترسية المشاريع على شركات تستطيع الوفاء بالتزاماتها التعاقدية. وقد أفرزت مسرحية ترسية المشاريع الفوضوية نموذجاً مبتدعاً من مهندسينا الوطنيين الأفاضل العاشقين لظل المكاتب ومعاملات الصادر والوارد، والترزز بالقرب من المسؤول الأول بحثاً على مركز وظيفي أعلى، فأراحوا أنفسهم بالمكاتب الاستشارية المشرفة على تنفيذ المشاريع، مكتفين بالتقارير الدورية أو مواعيد تقديم المستخلصات المالية، بمعنى: أن غالبية مشاريعنا في القطاعين العام والخاص يشرف عليها وينفذها كوادر غير وطنية، فموظفو الاستشاري أجانب، والمقاول مهندسوه وعماله أجانب، والمكتب المشرف هو ثالث الأجانب! وحتى لا نهضم حق إخواننا المهندسين من أبناء هذا الوطن الذين درسوا وتعلموا في الداخل والخارج، فقد أبدعوا ولا يزالون، في تقديم وتلاوة التقارير عن سير المشاريع ومستوى تنفيذها المستقاة والمرسلة أصلاً من مهندسي المكاتب الاستشارية المشرفة، وطنية الاسم أجنبية القوى العاملة، ولذلك أنصح بعدم التساؤل اليوم وغداً، أو البحث عن مصير تراكم الخبرة العملية الميدانية لمهندسينا الأفاضل لأنهم فضلوا الثوب والغترة والعقال على البدلة الميدانية، آثروا الراحة والتضحية بالعلوم الهندسية التي درسوها، وتركوها لمن يُنشدون الكد والتعب واكتساب المهارات الميدانية، إن مهندسينا الأعزاء يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فكثر الله من أمثالهم! (3) خائف أن أقول أنه عندما ساقت البشائر خبر تكليف شركة أرامكو بالإشراف على إدارة مشروع تصريف مياه الأمطار والسيول في محافظة جدة، فقد فرحت وكظمت الغيظ، وتألمت، مشاعر تراكمت في لحظة واحدة (اختلط الحابل بالنابل)، الفرح كان نتيجة طبيعية لسمعة وكفاءة الشركة المُكَلّفة التي تراكمت لديها خبرة طويلة في إدارة وهندسة المشاريع، وبعون الله ستنجح وسنَسعد جميعاً بخلاص محافظة جدة من معضلة صراعها الطويل والقاسي مع أنابيب تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي، ولا أعتقد في الوقت الراهن وبالأوضاع المتردية الراهنة لأمانة محافظة جدة أن هناك حلاً أو توجهاً أفضل من هذا. أما كظمي للغيط، فهو نابع من خوفي بأن يكون هذا الحل لحفظ ماء وجه أمانة مدينة جدة على فشلها الذريع طيلة 30 عاماً مضت! أما الألم فأخاف أن أقول لمسؤولي شركة أرامكو لماذا لا تفكرون جدياً في إنشاء أذرعة إستثمارية في الإنشاءات المختلفة لحاجة البلاد، والثقة التي تتمتع بها الشركة وتوفر الكفاءات والخبرات وديناميكية الإجراءات واتخاذ القرار، خوفي من هذا القول حتى لا أوصم بالسوداوي والمتشائم من فرص إصلاح وتطوير أجهزتنا الحكومية! ألم أكن محقاً في خوفي من الإفصاح عن مكنون قلبي؟. [email protected]