لا جدال في أن الحادثة التي وقعت في الولاياتالمتحدة أخيراً والتي ذهبت ضحيتها شابة في ال32 من العمر إثر تظاهرة نظمتها مجموعات يمينية، ألقت بظلالها على العالم بأسره، وعلى الولاياتالمتحدة والمجتمع الأميركي بشكل خاص. وبات من الواضح حجم الشقاق بين أطراف المجتمع الأميركي، فعندما يُقدم شخص ما على محاولة قتل مجموعة من المتظاهرين لمجرد إبداء آرائهم السياسية، عندها يُمكن القول إن الشقاق ترسخ في الوقت الحالي على الأقل. ولا يُمكن لوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطبيعة الحال، أو اقله ليس وحده مسؤولاً، تماماً بالصورة ذاتها التي ألقى فيها مسؤولية الحادثة على «الطرفين»، متمسكاً برأيه الأولي الذي أصدره ، وصوّبه في بيان للبيت الأبيض منتقداً المنظمات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وجماعة «كو كلوكس كلان» التي لم تشارك بصورة رسمية في التظاهرة، إلا أن رئيسها الأسبق ديفيد ديوك كان حاضراً. إلا أن خطاب التهدئة سرعان ما تغير، بعد أن عقد الرئيس مؤتمراً صحافياً في فندقه الخاص للمرة الأولى بعد انتخابه رئيساً. وعاد ترامب أمام إصرار الصحافيين وسيل الأسئلة، إلى موقفه السابق بتحميل الطرفين المسؤولية، ما جدد موجة الجدال. وسارع ديوك إلى الترحيب بتصريحات الرئيس، وكتب على «تويتر»: شكراً سيدي الرئيس ترامب على صدقك وشجاعتك في قول الحقيقة عن شارلوتسفيل والتنديد بالإرهابيين اليساريين». ودفعت هذه التصريحات كثيراً من الفاعليات والسياسيين إلى انتقادها، وعلى رأسهم وزيرة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، وحتى من أعضاء فريق ترامب السياسي. الإعلام ولعب الإعلام الأميركي دوراً رئيساً في الوصول إلى هذه الحالة، خصوصاً أن المجتمع أصبح مهيأً منذ ما قبل انتخاب ترامب، للشقاق والذهاب في سياقات منفصلة، وهو ما أدى فعلياً إلى انتخاب ترامب رئيساً. وتُمكن ملاحظة حجم الانتقاد الذي يوجَّه إلى ترامب من الإعلام «اليساري» نوعاً ما، إذ غالباً ما تتصدر انتقاداته عناوين «واشنطن بوست» و «نيويورك تايمز» وغيرها من الوسائل التي على الأقل يُشهد بمصداقيتها الإعلامية. كما أن الحملة امتدت إلى العديد من المواقع الإلكترونية والبرامج الكوميدية، وأصبح الرئيس الأميركي مادة دسمة للتهكم والانتقاد اللاذع الذي يصل حد الإهانة في بعض الأحيان. وعلى المقلب الآخر، انتهجت وسائل الإعلام «الصادقة»، كما يحب أن يصفها ترامب، الأسلوب ذاته، إذ باتت تركز على «إنجازات» الرئيس، التي في الكثير من الحالات لا ترتقي إلى تسمية «إنجاز». وفعلياً، لم يستطع ترامب حتى اليوم تحقيق أي وعد أطلقه خلال حملته الانتخابية، ويواجه «مطحنة» من التسريبات غير مسبوقة في تاريخ الولاياتالمتحدة. وطبعاً استغل الإعلام «الكاذب» هذه التسريبات خير استغلال. ولكن ما الجدوى؟ ما استطاعت ترسيخه العولمة أولاً والشعبوية بشكل ثانوي، هو الفصل بين المجتمع الأميركي، إذ لم يعد يُمكن جذب أي من «الجماهير المعادية» إلى المقلب الآخر، وأصبح الإعلام الأميركي أشبه ب «بروباغاندا» تنضح صدقاً. والحال أن هذه البروباغاندا، وربما للمرة الأولى، صادقة إلى حد بعيد، بفضل «نزاهة» الإعلام الأميركي وحرفيته، فعند حدوث أي فضيحة يقوم بها فريق ترامب تسارع وسائل الإعلام المعادية إلى تغطيتها بشكل نزيه أولاً، ومكثف ثانياً، وتعيد تكرارها في مختلف المناسبات. وهو للحق عمل صادق ويعتمد على أدلة واقعية، وفي بعض الأحيان غير قابلة للنقض. ويلعب الفريق المنافس على «الشعبوية» وامتعاض بعض الأميركيين من النظام السياسي برمته، وهو الذي تُحسب بعض وسائل الإعلام على بعض أطرافه. ويحارب هذا الفريق أولاً بورقة «الإعلام الكاذب»، وثانياً بالتركيز على إخفاقات الفريق السابق، أي الديموقراطيين أثناء وجودهم في الحكم. حرب أهلية منذ فترة، يدور الحديث في المجتمع الأميركي عن حرب أهلية في طور الحصول، وأتت حادثة شارلوتسفيل لتعمق هذه النظرية، خصوصاً لما تحمله من إشارات تعود أولاً وأخيراً إلى الحرب الأهلية الأميركية في 1865. بدأت الأحداث في شارلوتسفيل فعلياً مع قرار بعض الأشخاص من اليمين المتطرف، وعلى رأسهم النازيون الجدد والقوميون البيض وبعض من وجوه «كو كلوكس كلان» التي ظهرت فور انتهاء الحرب الأهلية الأميركية، التظاهرَ رفضاً لإزالة تمثال القائد العسكري الكونفدرالي روبرت إدوارد لي الذي قاد جيش الجنوب خلال الحرب الأهلية، وتغيير اسم الحديقة من «حديقة لي» إلى «حديقة إمانسبيشن». وفي الوقت ذاته، تجمع بعض من المنددين بهذه التظاهرة على المقلب الآخر، لتبدأ الاشتباكات ويعلن المسؤولون على أثرها حال الطوارئ في المدينة، بعد أن انتهت بمقتل سيدة في ال32 من عمرها بعد أن صدمها شاب من النازيين الجدد يدعى جيمس فيلدز. ولعل اسم الحديقة الجديدة، يحمل في طياته أيضاً تلميحات إلى عمق الانقسام الاجتماعي في الولاياتالمتحدة، إذ يعتبر إعلان إمانسبيشن هو الإعلان الرئاسي الذي أصدره الرئيس أبراهام لينكون في الأول من كانون الثاني (يناير) 1863 وأدى إلى تغيير الوضع القانوني لأكثر من 3 ملايين شخص في الجنوب وحولهم من «عبيد» إلى «أحرار». واللافت أن تغطية قناة ترامب المفضلة «فوكس نيوز» هاجمت الإعلام وتعاطيه مع تعليقات الرئيس، ووصفته بأنه «لا يعجبه شيء مما يقوم به الرئيس، فهو دائماً مقصر في نظرهم»، إضافة إلى مهاجمتها ما وصفه الرئيس ب «آلت ليفت» (اليسار البديل) وهو التعبير الذي لم يُستعمل في السياسة الأميركية، ويرمز إلى التعصب اليساري ومقارنته ب «آلت رايت» (اليمين البديل المتطرف). والحال، أن الحادثة على رغم أنها استدعت كثيراً من ردود الفعل المنددة بتصريحات ترامب من قادة الدول وحتى من بعض الأطراف المؤثرة في حزبه، على غرار ماركو روبيو، إلا أن الكلام في هذا الإطار لم يعد يفيد، فالإعلام الأميركي يعيش نوعاً من الحرب الأهلية بشكل يومي. وتؤثر بطبيعة الحال هذه الحرب، على المجتمع. خصوصاً أن الحقائق أصبحت وجهة نظر يُمكن دائماً تحويرها وبثها بالقالب الملائم. ولم يقتصر الشقاق على الإعلام، بل شمل شركات التكنولوجيا التي تنادي بقيم «التسامح» و «التعددية». ومنع «فايسبوك» شخصيات مصنفة من فئة المحافظين بالتعبير عن رأيها، واتهم بأنه يُحرف الأخبار التي يقدمها إلى المشتركين. كما جمد «تويتر» حسابات ناشطين من اليمين الراديكالي والمتطرف، ورفض أيضاً «باي بال» تحويل الأموال إلى مجموعات من الناشطين الأوروبيين المعادين للهجرة. «آر بي أن بي» أيضاً، ألغى حسابات ناشطين من منظمات عرقية ويمينية متطرفة كانوا يدافعون عن التمييز.